القوة تُبنى من أسفل وثقة الشعوب تحاز بسهولة بموجات شعبية أو سطوة إعلامية ولكنها تُفقَد بسهولة أيضاً
أن يكون “مودي” الـ”شاي وَلَه” أو صبي الشاي كما كان في صغره هو ممثل الهند لخمس وربما عشر سنوات قادمة.. وأن يكون “جوكو” تاجر الأثاث النحيف هو ممثل إندونيسيا القادم.. هذا عين التحول!
الدرس الآسيوي بل واللاتيني والأوروبي أيضاً واضح: السياسة المحلية أولاً لأن القوة تُبنى من أسفل وثقة الشعوب تحاز بسهولة بموجات شعبية أو سطوة إعلامية ولكنها تُفقَد بسهولة أيضاً إلا إذا ساندها رصيد حقيقي على الأرض في مدينة أو حتى مجموعة قرى
المدن والأحياء والقرى هي عصب الحضارة هي الواقع الذي يصدقه الناس أكثر من أي إعلام ومعقل الأمنيات التي تدفع الناس نحو التغيير أكثر من أي شعارات وتجمّعات نطلقها اليوم وتتبخر غداً
اتجهت أنظار الجميع إلى البرازيل في الأيام الماضية لمتابعة كأس العالم، إلا أن القليلين هم من تابعوا قمة “بريكس” التي تلتها، والتي تجمع الصين والهند والبرازيل وروسيا وجنوب أفريقيا، باعتبارهم القوى الخمس الأبرز الصاعدة خارج إطار القوى الغربية التقليدية، تداولت وسائل الإعلام لاحقاً أنباء عن أن القوى الخمس تنوي تأسيس بنك بديل للبنك الدولي، يكون مقره مدينة شنغهاي الصينية، وتتولى الهند أول دورة لرئاسته، ولكن الصحف الهندية كان لها حديث آخر، منصبّ بالأساس على رئيس الوزراء الهندي الجديد، “نارِندرا مودي”، في أولى جولاته الدولية، بين كبار زعماء العالم.
لم يكن أحد في الهند ليتخيّل منذ عشر سنوات أن يكون “مودي” حيث هو الآن، وهو الهندوسي المتطرف الذي لم يتراجع يوماً عن أيديولوجيته، ورفض مراراً وتكراراً الاعتذار عن تقصير حكومته في مذبحة عام 2002م الشهيرة ضد المسلمين في ولاية كوجرات، وقد كان رئيساً للولاية آنذاك.. صعد نجم “مودي” على مدار 12 عاماً كرئيس للولاية، ليطبّق سياسات رأسمالية صِرفة أدت إلى صعود أسهم الولاية في الهند، بل وعالمياً.. “نموذج كوجرات” الذي يتشدق به أنصاره لا يبدو براقًا فيما يخص مؤشرات التنمية البشرية والإنسانية، ولكنه حاز إعجاب ما يقرب من نصف المليار من الطبقة الوسطى الهندية، والتي دفعها طموحها الجارف للحاق بالصين وسوقها، ونقمها على عقود هيمنة حزب الكونجرس بأيقوناته التاريخية “غاندي”، و”نهرو”، نحو انتخاب “مودي”.
يقف “مودي” الآن مُحدثًا ثورة وتحوّلاً لعله الأبرز منذ استقلال الهند عن بريطانيا، ليصعد من خارج الحسابات واصلاً لرأس السلطة الهندية المعقدة والمليئة بشبكات الفساد، مُعلناً نهاية عصر أسرة “نهرو”، وبداية عصر جديد، ربما من أقصى اليمين السياسي والاقتصادي، ولكنه خيار الشعب على أي حال، ولكن “مودي” ليس وحده، فأكبر دولة إسلامية، وآسيوية بعد الصين والهند، على أعتاب تغيير جذري هي الأخرى.
ليس هناك حديث في عالم السياسة في إندونيسيا سوى عن “جوكو ويدودو”، حاكم جاكرتا، والزعيم الشعبي الصاعد الذي حاز شعبية جارفة بسياساته المحلية، وقف “جوكو” في الانتخابات الرئاسية في مطلع يوليو في مواجهة الجنرال “سوبيانتو”، المتهم بجرائم ضد حقوق الإنسان في التسعينيات، والذي تقف مختلف عناصر الدولة التقليدية الإندونيسية إلى جانبه محمّلة بإرث حقبة “سوهارتو”، وكذلك الكثير من الأحزاب الإسلامية التي مالت له على حساب “جوكو”، تحالف الدولة وأقطاب الإسلاميين الرئيسة مع الجنرال، لم يمنع “جوكو” من التقدّم في الانتخابات، والحصول على أكثر من 50%، طبقًا للإحصائيات غير الرسمية، والتي ستصبح رسمية في غضون أسابيع ليكون هو رئيس إندونيسيا الجديد.
ماذا قدّم “جوكو”، أو “جوكووي” (Jokowi) كما يُكنى، ليستطيع هزيمة تحالف من العسكر والإسلاميين في أكبر بلد إسلامي في العالم؟ لم يقدّم “جوكو” الكثير في الحقيقة، جل ما قدمه هو خدمته لحي “سوراكترا” الذي وُلِد ونشأ به بين عامي 2005 و2012م، والانفتاح على الناس الذي تميّز به مقابل موظفي ورجال الدولة التقليديين، وهو ما جعله يفوز بسهولة برئاسة جاكرتا العاصمة عام 2012م، “بلوسوكان” هو مفهوم “جوكو” عن الحُكم، وهي كلمة تلخص رؤيته في إدارة الحياة اليومية بشكل “أفقي” لا “رأسي”، حيث يلتقي المجتمعات المحلية باستمرار، ويحاول حل المشكلات اليومية، وهي سياسة بسيطة لا تتطلب الكثير من التفلسف.
فمثله مثل “أردوغان”، وعلى العكس من القامات الثقيلة فكرياً مثل وزير الخارجية التركي “أحمد داود أوغلو” على سبيل المثال، لا يملك “جوكو” مدرسة فكرية أو فلسفة بالمعنى المعقد للكلمة، ولكنه دغدغ المشاعر بخطابه عن الإصلاح والقُرب من الناس، وقدم لهم عبر العمل محلياً نموذجاً على الأرض لما ينادي به، وهو ما دفعهم نحو انتخابه، عانى “جوكو” كثيراً من مختلف مستويات الدولة التقليدية في إندونيسيا باعتباره تاجراً للأثاث، ورغبته في إصلاح المنظومة هي ما دفعته ليكون عمدة سوراكترا، ومن ثم حاكم جاكرتا.
ما يجري في آسيا الآن تحوّل بحق، أن يكون “مودي” الـ”شاي وَلَه”، أو صبي الشاي كما كان في صغره، هو ممثل الهند لخمس، وربما عشر، سنوات قادمة، وأن يكون “جوكو”، تاجر الأثاث النحيف، هو ممثل إندونيسيا القادم، لعل ما يجري في الهند وإندونيسيا الآن قد جرى منذ عقد في تركيا، حيث بزغ “أردوغان” منطلقاً من شعبيته في إسطنبول، ليصل لسدة الحكم في تركيا مواجهاً كافة شبكات السلطة والمال، ومتربعاً على عرش الدولة التركية رُغم كونه غريباً عن نُخبها، ما إذا كان “مودي”، و”جوكو” سيستطيعان فعل الشيء ذاته مع بلدان أكبر مساحة وتعداداً، وأعقد من ناحية منظوماتهما التقليدية، هو أمر ستكشف عنه الأيام، الشيء المهم هنا هو أن كليهما له خبرة بالإدارة صعوداً من الدوائر الصغيرة وحتى الكبيرة، وأن كليهما ليس سهلاً زعزعة شعبيته التي بناها على مدار سنوات حُكمه المحلي، فهي ليست فقاعة إعلامية ولا موجة شعبية ستخبو بعد قليل.
لم يكن ليقف “مودي” على رأس الدولة الهندية اليوم لو لم يعمل بدأب في كوجرات، الكلام ذاته يُقال عن إسطنبول و”أردوغان”، وعن جاكرتا و”جوكو”، لا تبدو تلك “المعجزات” الآسيوية استثناءً إذا نظرنا إلى بلدان أخرى جرى فيها أمرٌ مشابه، فإيطاليا ورئيس وزرائها الإصلاحي الحالي، “ماتيو رِنزي”، صعد نجمه منذ رئاسته لولاية فلورنسا، وهو الوحيد الذي يحمل أمل القضاء على سطوة “برلسكوني” وحلفائه على الحياة السياسية الإيطالية، وقد فاز حزبه اليساري في الانتخابات البرلمانية الأوربية، على العكس من دول أوربية أخرى مثل فرنسا وبريطانيا اكتسح بها اليمين، وهو من السياسيين الأوربيين الأكثر شعبية رُغم كونه مجهولاً في إيطاليا منذ سنوات قليلة، أيضاً رئيس المكسيك “إنريك بنييتو” لم يكن ليصل لمنصبه لولا رئاسته لولاية المكسيك، والتي تبنّى فيها أجندة من أكثر من مائة “وعد” تعهد بها وحقق أكثر من 90% منها، وأغلبها طموحات خاصة بالحياة اليومية والمجال العام، من إصلاح منظومة الرعاية الصحية إلى إقامة الجسور والكباري.
لا يجمع هؤلاء أي رابط أيديولوجي، ليوفرّوا علينا أي استنتاج متعلق بأفكارهم قد يدفعنا لتبني أفكار مثلهم، فـ”مودي” يميني متطرف بمعنى الكلمة، “أردوغان” يمين الوسط إن جاز القول، “جوكو” في الوسط، “ماتيو” منتمٍ لليسار الأوروبي المعتدل، و”بنييتو” لليسار اللاتيني، ولكن كل هؤلاء يجمعهم شيءٌ واحد: أنهم نجحوا في غزو “منظومة” معقدة من الفساد عن طريق بناء قاعدة محلية أولاً، لم يمارس أي من هؤلاء السياسة على المستوى القومي بقدر ممارسته للسياسية المحلية واهتمامه بمدينة، أو بولاية واحدة، ثم الانطلاق منها، ولم يتبنَّ أي من هؤلاء أي “حراك” ثوري تمهيداً لصعودهم، أي أنهم افتقدوا الميزة الأساسية في “الربيع العربي”، وهي خلخلة النظم الناتجة عن الثورات الشعبية، ولكنهم رغم ذلك وصلوا، في حين خابت معظم آمال “الربيع العربي” مؤقتًا، لا يزال أمام هؤلاء الكثير، ولكن وصولهم في حد ذاته يبرهن على حقيقة غائبة عن الكثيرين في العالم العربي: أن السياسة المحلية أصبحت ضرورة قبل ممارسة السياسية على المستوى القومي، وأن الإخفاقات المختلفة، خاصة في البلدان الكبيرة صعبة الحُكم، التي شهدناها بعد “الربيع العربي”، لم تكن سوى تجلٍّ لاستعجال قطف الثمار “المركزية”، وتجاهل الجذور المحلية للسياسة والاقتصاد وغيرهما.
لكل جواد كبوة..
الثورات العربية مستمرة وستظل، ولكن القيام مجدداً واستعادة ما فُقِد يتطلب أكثر من مجرد الأمل وحتى “التنظير” والفكر.. الدرس الآسيوي، بل واللاتيني والأوروبي أيضاً، واضح: السياسة المحلية أولاً، القوة تُبنى من أسفل، وثقة الشعوب تحاز بسهولة بموجات شعبية أو سطوة إعلامية، ولكنها تُفقَد بسهولة أيضًا، إلا إذا ساندها رصيد حقيقي على الأرض، في مدينة أو حتى مجموعة قرى.
قد يقول قائل: إن موضوع البناء من أسفل هذا يتطلب الكثير من الوقت، ولكن الواقع، خاصة في البلدان المتعطشة للتغيير، أن بزوغ أي شخص – مثل “جوكو”، و”ماتيو”، و”رنزي” – أثبت كفاءته في المستوى المحلي في بضع سنوات، يستطيع أن يصنع ذلك بسهولة، ومن دون حتى موجة شعبية.
المدن والأحياء والقرى هي عصب الحضارة، هي الواقع الذي يصدقه الناس أكثر من أي إعلام، ومعقل الأمنيات التي تدفع الناس نحو التغيير أكثر من أي شعارات وتجمّعات نطلقها اليوم وتتبخر غداً، الثورات يجب ألا تكون بالضرورة ثورات بالمعنى الكلاسيكي، جموع تفور وتُقصي قائداً مستبدلة إياه بقائد آخر، الثورات يمكن أن تكون هادئة، من أسفل، مبنية على العمل الدؤوب مع الناس وللناس، عمل دؤوب كهذا في ولاية من أكبر ولايات الهند حمل هندوسياً متطرفاً لسدة الحكم في دولة ربما دولتها العميقة توازي الدول العميقة العربية كلها مجتمعة، لم يحتج “مودي” إلى تبني أفكار مخالفة لعقيدته، أو لتملق النخبة الهندية المتحكمة في قطاعات الإعلام أو أي من القوى الدولية، لم يتملق “مودي” إلا شعبه، منطلقاً من ولايته، كما فعل “جوكو” الذي استغنى عن العسكر وشبكات الفساد والإسلاميين على حد سواء، تملّق الشعب والعمل الدؤوب معه كان كافياً.