عبدالحافظ الصاوي
وسط تعتيم شبه كامل، بدأت مصر عامًا ماليًا جديدًا في أول يوليو، ولم يستوف الشعب المصري حقه الدستوري في مطالعة الموازنة العامة للدولة، اكتفت الحكومة ببيان صحفي، وفي ظل غياب البرلمان، لم تعقد جلسات حوار وطني كما حدث في الأعوام الماضية بعد ثورة 25 يناير، بسبب غياب البرلمان.
الأكثر ضبابية أن الخطة العامة للدولة، والتي هي الأصل الذي يجب أن يستوفي حقه من المناقشة، حيث يتم التعرف على توجهات الدولة الاقتصادية والاجتماعية، ودور كل من القطاعين العام والخاص، وطبيعة الاستثمارات المنشودة، وأداء القطاعات الاقتصادية، لم يحدث شيء من هذا على الإطلاق.
الموازنة السرية
تستحق موازنة العام المالي 2015/ 2016م، والتي تفعَّل في أول يوليو 2015م، أن يطلق عليها بدون أي تجنٍّ أنها موازنة سرية، فلا يمكن اختزال حق المجتمع في إقرار الموازنة في مجرد بيان صحفي من وزارة المالية بأن الحكومة أقرت الموازنة، لكي يتم رفعها لقائد الانقلاب العسكري لاعتمادها، بسبب غياب البرلمان.
وأهدر حق المجتمع في ممارسة دوره في معرفة حقيقة الموازنة العامة للدولة، لينحصر في مجرد خبر صحفي هنا أو هناك بأن المعاشات العامة ستزيد بمعدل 10%، أو أن معاشات العسكريين ستزيد بمعدل 10%، وذلك بعد الاطلاع على الجريدة الرسمية، وقراءة ما صدر من قرارات جمهورية بهذا الخصوص.
وسوف يتكرر الأمر مع باقي تفاصيل الموازنة، حيث تصدر بقرار جمهورية، بالإضافة إلى ما يتعلق بها من قوانين تخص فرض ضرائب جديدة، أو تفاصيل أخرى تستأهل تعديلات تشريعية.
إن المجتمع يعيش حالة ترقب للعديد من النواحي الاقتصادية، التي تؤثر على معيشته، مثل ما نشر عن تخفيض الدعم للسلع الغذائية، أو الوقود، وكذلك باقي بنود الدعم المختلفة.
وحتى بعد اطلاع الشعب على تفاصيل الموازنة فيما بعد من خلال الجريدة الرسمية، أو من خلال موقع وزارة المالية، بنشر الموازنة بعد اعتمادها، أين حق المجتمع في إقرار الموازنة، وأين دور مؤسسات المجتمع المدني، التي ترى أن هناك أموراً لابد من أخذها في الاعتبار عند إقرار الموازنة واعتمادها.
أحزاب مغيبة
حتى وفي ظل غياب البرلمان، فإن من حق الأحزاب المصرية التي لم يعد يعرف لها عدد من كثرتها، أن تدعى لكي يعرض عليها مشروع الموازنة، وتبدي فيه رأيها، وتنعكس أيدلوجياتها وبرامجها الاقتصادية والاجتماعية في طرحها لتعديل الموازنة، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث.
إن الأحزاب المصرية الحالية تضم ألوان طيف سياسي واجتماعي، وينبغي أن يكون لها دور، وأن تستثمر الحدث لإشعار المواطن أنها معبرة عنه بحق، وأنها تسعى للحصول على حقوقه، وليس مجرد فقط الزحام على حضور اجتماعات قائد الانقلاب العسكري أو المشاركة في ندوات تعنى بقانون الانتخابات.
أظهرت واقعة الموازنة السرية لمصر عن العام المالي 2015/ 2016م، أن الأحزاب المصرية تعيش حالة غيبوبة اجتماعية، وفي عزلة عن المجتمع المصري، ولا تحمل همومه، التي يتصدرها واقع اقتصادي متردٍّ، وأعباء معيشية لا تطاق، جعلت المجتمع المصري يصحو يوميًا على مطالعة حوادث الانتحار لفئات عمرية متعددة بسبب مشكلات وقضايا اقتصادية، في غالبيتها عدم القدرة على مواجهة متطلبات الحياة.
أين أحزاب اليسار من قضايا الفقراء التي يجب أن تعكس الموازنة العامة للدولة، اهتمامًا بهذه الشريحة التي تزداد في مصر يومًا بعد يوم؟ أين الأحزاب التي تدعي الليبرالية وحرصها على الشفافية، وهناك حالة تعتيم كاملة على بيانات الموازنة، وغياب عرض الحكومة لبرامجها لمعالجة قضايا غاية في الأهمية تخص الأجيال الحاضرة، والأجيال القادمة، وهي قضية الدين العام، وهذا التوسع غير المسبوق في المديونية المحلية، وعزم الحكومة على ممارسة نفس الدور في المديونية الخارجية، تحت لافتات أخرى، مثل ودائع الدول الخليجية بالبنك المركزي، أو قيام الهيئة العامة للاقتراض من البنوك المحلية بالعملة الأجنبية لسداد مستحقات الشركات الأجنبية؟
شعارات جوفاء
مما تضمنه البيان الصحفي المقتضب عن الموازنة العامة للدولة للعام المالي 2015/ 2016م، الحرص على العدالة الاجتماعية، ولا يجد المواطن في الأرقام المنشورة أي دلالات على أن هناك حرصاً على تحقيق العدالة الاجتماعية.
فلم يُعرف بعد مصير الإصلاح المرتقب في بند الأجور، الذي بلغ 228 مليار جنيه مصري، فالأيام الماضية كشفت أن قرارات الحد الأقصى للأجور أصبح حبراً على ورق، بعد أحكام القضاء باستثناء القضاء وموظفي البنوك من تطبيق هذا القرار.
وفي الوقت نفسه، فإن معدل التضخم المتصاعد بسرعة الصاروخ خلال الأيام الماضية، والذي قدر بنحو 13.5% من قبل المؤسسات الحكومية، يجعل مقتضيات العدالة الاجتماعية، أن تعيد الحكومة النظر في الحد الأدنى للأجور، وأن مبلغ 1200 جنيه شهريًا لم يعد معبرًا عن الحد الأدنى للأجور.
أما ما شغلت به الحكومة الرأي العام خلال العام الماضي من مشروعات كبرى، بعضها أصبح في حكم العدم، والبعض الآخر اتضح أنه نفذ من خلال قرار فردي من قبل قائد الانقلاب العسكري، من أجل دعاية سياسية لبقائه، وأبرز هذه المشروع توسعة قناة السويس.
ومشروع قناة السويس على وجه التحديد، يرتبط بالموازنة العامة للدولة بشكل مباشر، حيث تم تحميل هيئة قناة السويس بقيمة السندات التي تم إصدارها لتنفيذ المشروع بنحو 64 مليار جنيه مصري، وكذلك تكلفة التمويل التي ستصل لنحو 7.5 مليار جنيه سنويًا، وعلى مدار السنوات الأربع القادمة.
إن من حق الشعب أن يعلم مصير هذه الاستثمارات، وما العوائد المتحققة من هذا المشروع؟ وهل ستفي بتكلفة التمويل، أم ستكون خصمًا من إيرادات القناة، التي تعد واحدة من أهم الموارد الجارية للموازنة العامة للدولة، وبخاصة فيما يتعلق بالنقد الأجنبي، بعد أن تأثرت سلبيًا المصادر الأخرى مثل البترول، والسياحة؟
دولة الحكومة
المفترض أن هناك مؤسسات في الدولة المصرية، وهناك سلطات متعددة، أهمها في شأن الموازنة، السلطة التشريعية التي من أهم اختصاصاتها بحكم الدستور اعتماد الموازنة، ومراجعتها من خلال الحساب الختامي، ولكن السلطة التنفيذية مازالت حريصة على تغييب السلطة التشريعية، وتأجيل انتخابات البرلمان، على الرغم من أنها كانت تسبق انتخابات الرياسة في خارطة الطريقة التي أعلنها الانقلاب العسكري في يوليو 2013م.
وحتى إن كانت السلطة التشريعية مغيبة، فلا أقل من أن تمارس السلطات الرقابية دورها في تنوير المجتمع، بأداء الحكومة خلال الفترة الماضية، وبخاصة أن أهم مؤسسة رقابية تعتني بالموازنة، وهي الجهاز المركزي للمحاسبات يمنع من مراجعة بعض حسابات مؤسسات السلطة التنفيذية، وهي وزارة الداخلية، وليس هذا بالشيء الخفي، ولكنه معلن من قبل رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، ورغم شكواه لقائد الانقلاب العسكري، فإنه لم يمكن من ممارسة اختصاصاته في الرقابة ومراجعة وزارة الداخلية.
إن تمرير موازنة العام المالي 2015/ 2016م بهذه الطريقة ليس سوى استمرار لدولة الفساد، وأن تبقى الأمور المالية للدولة حكراً على السلطة التنفيذية، وأنها لا ترغب في ممارسة أي دور رقابي لا من قبل السلطة التشريعية، أو المجتمع المدني، أو المؤسسات الرقابية.