جون بابتيست كاستيل
قبل عشرين عاماً، لقي ثمانية آلاف رجل وشاب مسلم حتفهم على أيادي جنود راتكو ملاديتش، وهو ضابط في الجيش الصربي، خلال أكبر إبادة جماعية شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، لتبقى هذه المجزرة نقطة سوداء بين سراييفو وبلجراد، ورغم رفض المسؤولين الصرب استعمال كلمة “إبادة جماعية” لوصف ما حدث، فإنه من الضروري إعادة النظر في المسألة والتطرق إلى مسؤولية المجتمع الدولي فيها إذا ما أردنا تحسين العلاقات بين صربيا والبوسنة والهرسك.
وفي هذا الإطار، تم تأسيس المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، وهي لجنة أسستها منظمة الأمم المتحدة لمحاكمة جرائم الحرب التي ارتكبت في يوغوسلافيا السابقة؛ وذلك إثر انتهاء النزاعات في المنطقة، ولقد تم إيقاف مجموعة من المتهمين، منهم راتكو ملاديتش، واتخاذ الإجراءات القانونية في حقهم، ولكن قرارات المحكمة الجنائية لن تكون في صالح مساعي تهدئة العلاقات بين البلدين، حيث إن العدالة الدولية غالباً ما ترتبط بمخاطر سياسية مثلما وقع في قضية أنته غوتوفينا، العسكري الكرواتي الذي اتهمته محكمة العدل الدولية ليوغسلافيا السابقة، بتهمة “الاشتراك الجنائي” في محاولة طرد صرب كرايينا من كرواتيا عام 1995م، حيت تسببت إدانته في أزمة مع بلجراد.
المصالحة الهشة بين بلجراد وسراييفو
يتم تكريم ذكرى ضحايا المجزرة في احتفالات سنوية تقام بالنصب التذكاري في مدينة بوتوكاري الذي تم تشييده في 2003م، ويبقى تعداد الضحايا، المقدرين بـ8372 شخصاً، محل اختلاف بين السلطات، حيث إن صربيا لم تعترف بدورها فيما حدث إلا منذ سنوات قليلة، لقد أصبح بوريس تاديتش أول رئيس صربي يزور النصب التذكاري بعد أن قام برلمان بلاده بإدانة ما حصل في عام 2010م، مع رفضهم المتواصل لاستعمال كلمة “إبادة جماعية”.
لقد كان من المتوقع حضور عدد من الشخصيات خلال احتفالات عام 2015م مثل ميلوراد دوديك، رئيس جمهورية صرب البوسنة، والرئيس الكرواتي والسلوفيني والمونتينيغري، ولأول مرة، رئيس الوزراء الصربي أكسندر فوتشيتش، ولكن لم يقع تنظيم الحدث بسبب خلاف بين سراييفو وبلجراد.
لقد قامت سويسرا، في يونيو، بإيقاف ناصر أوريتش، قائد قوات الدفاع خلال أحداث سربرنيتسا الذي تمت تبرئته من قبل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، بطلب من صربيا التي لم ترضَ بقرار المحكمة، وهددت البوسنة والهرسك بإلغاء الاحتفالات إذا ما لم يتم إطلاق سراح ناصر، ولكنها تراجعت عن قرارها بعد تعرضها لضغوطات من قبل المجتمع الدولي، لقد تجاوز الأمر منطقة البلقان وأصبح مسألة تحالفات، خاصة وأن توميسلاف نيكوليتش، الرئيس الحالي لصربيا، مُصرّ في رفضه حضور الاحتفالات.
حرب القرارات
لقد قامت المملكة المتحدة بإيداع مشروع قرار أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يطالب بالاعتراف الرسمي بأن ما قامت به القوات العسكرية الصربية، في يوليو 1995م في سربرنيتسا، هو إبادة جماعية ممنهجة في حق الشعب البوسني، ويدعو إلى تسمية يوم 11 يوليو من كل عام “يوم تذكّر ما حدث لضحايا الإبادة الجماعية في سربرنيتسا”، وقامت بلجراد، على الفور، بمحاولة التأثير على أعضاء المجلس من أجل عدم المصادقة على هذا القرار.
بعد ذلك، قامت روسيا، الحليف التقليدي لصربيا، بالإعلان عن مشروع قرار مضاد يتعلق بـ”كافة الجرائم التي حصلت في يوغوسلافيا السابقة”، ويمنح الحرية لصربيا للامتناع عن استعمال كملة “إبادة جماعية”، قامت موسكو باستعمالها حق “الفيتو” ضد مشروع القرار البريطاني في 8 يونيو، بعد أن تم رفض مُقترحها.
لا تأتي مساندة روسيا لصربيا كمفاجأة باعتبار العلاقات الوطيدة التي تجمع البلدين، حيث تقوم صربيا برعاية مصالح المؤسسات الروسية على أراضيها وتقوم موسكو بمساندة بلجراد دون هوادة عندما يتعلق الأمر بكوسوفو.
ويجدر بالذكر أن حرب القرارات هذه لم تنتهِ، حيث قام البرلمان الأوروبي باقتراح مشروع قرار يؤكد وجوب الاعتراف بأن ما وقع في سربرنيتسا هو إبادة جماعية، وتمت المصادقة على هذا القرار بأغلبية ساحقة في 9 يوليو الجاري بالرغم من تمكن بلجراد من إقناع عدد من النواب بوجهة نظرها.
وفي هذا الإطار، قام النائب الأوروبي أيمريك شوبارد بمحاولة لإفشال مشروع القرار تتمثل في اقتراحه نصاً يؤكد “غياب أي دليل يدين الأقلية الصربية”، ولكن تم رفض مقترحه بأغلبية تامة، وتجدر الإشارة إلى أنه لا وجه غرابة فيما قام به أيمريك شوبارد، المنتمي لحزب اليمين المتطرف الفرنسي، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار علاقته الوطيدة مع فويسلاف سيسلي، رئيس الحزب اليميني المتطرف الصربي.
ولا يتوقف تدخل المجتمع الدولي عند المصادقة على القرارات باعتبار أن على العديد من الدول تحمل المسؤولية فيما حصل في 11 يوليو 1995م وخاصة هولندا باعتبار أن فوج القبعات الزرق المكلف بحماية المنطقة آنذاك كان منها.
لقد كانت عملية تحمل المسؤولية طويلة بالنسبة لهولندا، ولكن محكمة لاهاي لم تتردد في اتهامها بالتقاعس في أداء واجبها وتعاونت بشكل كامل مع عائلات الضحايا، قبل الوصول إلى هذا، قامت جمعية “أمهات سربرنيتسا” باتهام هولندا ومنظمة الأمم المتحدة بـ”الفشل في منع وقوع إبادة جماعية”، و”عدم الإعلان عن جرائم حرب”، لقد تم رفض هذه الاتهامات منذ أشهر قليلة، ولكن تجدر الإشارة إلى أن العدالة الهولندية قد حكمت على هولندا بالاشتراك في قتل 300 بوسني في سربرنيتسا.
وتبقى حالة هولندا هذه فريدة من نوعها، حيث تم غض النظر على العديد من التجاوزات التي وقعت خلال النزاعات التي هزت منطقة البلقان، وذلك من أجل حماية جهات سياسية واقتصادية ذات نفوذ في المنطقة.
بعد عشرين عاماً على مرور الواقعة، يسود الصمت على ما حدث، ويتعذر على الضحايا معرفة الحقيقة، يجب القيام بتحقيقات لا تنحصر في البوسنة والهرسك فقط، وإنما تشمل كافة بلدان البلقان ضحايا حرب التسعينيات، من المحزن أن نرى المناهج المدرسية تتعرض لمذبحة سربرنيتسا وكأنها تفصيل غير مهم، فهذا لا يبشر بمصالحة على المدى القريب ولا يمكن الضحايا من التعبير بصراحة.
الرابط:
http://www.huffingtonpost.fr/jeanbaptiste-kastel/srebrenica-le-lent-devoir-de-memoire_b_7767672.html?utm_hp_ref=france