بعد قرار القوات الأجنبية مغادرة أفغانستان في بداية عام2014 وتحويلها المهام الأمنية و عمليات استتباب الأمن إلى القوات الأفغانية الوليدة دخلت أفغانستان لتعيش حقبة جديدة من المجهول بكل ما تحمله من معنى، إذ إن الأمريكيين قبل غيرهم يعرفون أن القوات الأفغانية لم تكن مستعدة لتحمل عبء مواجهة مقاتلي طالبان الذين صمدوا في وجه حوالي 200 ألف جندي غربي في أفغانستان طيلة السنوات الاثنا عشر الأخيرة. وسارع الأمريكيون في نقل مهمات الأمن و مسؤوليات الحفاظ عليه إلى الأفغان أنفسهم وتحميل مسؤولية ذلك. وقرر الأمريكيون مقابل ذلك الاحتفاظ بحوالي 10 آلاف جندي من جنودهم ومعهم بعض حلفائهم البريطانيين وغيرهم، حيث أعلنوا أن مهماتهم لن تكون قتالية قدر ما تكون لوجستية استخبارية وتدريبية لا أكثر. وتحت معاهدة الأمن بين الأمريكيين و الأفغان التي يتم تجديدها كل عامين، قرر الأمريكيون الإبقاء على 7 قواعد عسكرية لهم تتواجد على مقربة من دول الجوار لأفغانستان. وإذا كان الأمريكيون قد وصفوها بأنها تعهد أمني أمريكي للأفغان بحمايتهم مستقبلاً من أي خطر خارجي، و التدخل إذا وصل الوضع إلى تدمير مؤسسات الدولة الأفغانية الحديثة رأتها دول الجوار مجرد قواعد للتجسس عليهم وجمع معلومات عن أمنهم واستقرارهم وليست لحماية الأفغان.
هشاشة في مؤسسات الدولة و أهمية الحوار
و يقول المراقبون: إلى أن ما تشهده أفغانستان اليوم بعد انسحاب القوات الأمريكية من أراضيها يشبه إلى حد كبير الأوضاع التي خلفتها وراءها أمريكا عند مغادرتها العراق في السنوات الماضية.
– فقد غادر الأمريكيون العراق وتركوا مؤسسة الجيش العراقي في حالة يرثى لها وغير قادرة على قيادة حرب العصابات وحرب الكر والفر وفاقدة للسلاح الجوي المتطور و للأسلحة الدفاعية الضرورية لمواجهة خصومها. والأمر نفسه يحدث اليوم مع الأفغان بل أسوأ من العراق، فالجيش الأفغاني هو اسم لا غير و أن أفراده الذين وصلوا إلى سقف 300 ألف جندي غير قادرين على قيادة معاركهم مع خصومهم من طالبان وغيرها وغير مهيئين أصلاً لخوض هذا النوع من الحروب. فقد جرى تدريبهم بشكل قياسي و تعلموا كيف يحملون السلاح، لكنهم لا يملكون أي عقيدة عسكرية تجعلهم يقاومون الخصم و يستمرون في المقاومة.
– والأسوأ من ذلك، أن مؤسسة الجيش لا تملك ميزانية خاصة تجعلها قادرة على تطمين قواتها على مستقبلهم وعجزت هذه المؤسسة على توفير جميع حاجيات قواتها المسلحة من أسلحة وسائل وإمكانات وظروف عمل حقيقية وأدى هذا الوضع بعدد كبير منهم إلى ترك الخدمة العسكرية والتطوع في صفوف الجيش، بينما اختار بعضاً منهم الانضمام إلى طالبان وداعش واختار آخرون الانشغال في عمليات التهريب و الأعمال غير القانونية. ويشكو أغلب الجنود في هذه المؤسسة المتواضعة من عدم تسلمهم رواتبهم لعدة أشهر الأمر الذي حملهم على البحث عن أعمال أخرى لجمع المال اللازم لهم.
– وتحت هذا الواقع لجأت الحكومة الأفغانية بمثل ما لجأت إليه الحكومة العراقية إلى تأسيس مليشيات مسلحة تملك عقيدة قتالية وتعرف الأرض وقررت حكومة أشرف غني بعد إنهاء التواجد الأمريكي الغربي في أفغانستان في عام 2014 إلى اللجوء إلى المليشيات التي تشبه الحشد الشعبي في العراق، لأنها رأتها أكثر واقعية وقرباً منها. وشكلت الحكومة قوات موازية للجيش مشكلة من القبائل الغير البشتونية التي ظلت تحمل السلاح في العقود الماضية التي شهدت فيها أفغانستان الحروب المتواصلة وراحت تستخدم هذه المليشيا في محاربة طالبان وغيرها من الجماعات المسلحة. والقاسم المشترك في هذه المليشيات أنها تأتمر بأوامر قائد واحد وتنتمي لنفس القبيلة و الفصيل العرقي، وهو ما يجعلها تشترك في المصالح والأهداف والرؤى بخلاف قوات الجيش الأفغاني المشكل من البشتون والأوزبك والطاجيك والهزارة وغيرهم وتتعد فيه العرقيات والطوائف ولا يقف على قلب رجل واحد وتتصارع المصالحة والأهداف.
خطوات تحقيق الاستقرار
وحول الخطوات التي يراها الأفغان من أجل تحقيق الاستقرار في بلادهم وعدم الرهان على البندقية وإعطاء فرص أكبر للحوار والأمن فهي:
– تحقيق مناخ الوحدة الوطنية: فلا زال الأفغان منقسمين على بعضهم البعض ولا زال المجتمع الأفغاني متنازعاً مع بعضه البعض ولم تتمكن الحكومة الأفغانية من تقديم أي تطمينات على مستقبل طالبان وتحقق مطالبها. و لا زال المقاتلون الطالبانيون يرون أن حكومتهم لا تعمل لصالح الوطن ولا زالت منفذة لأهداف الغرب ومحافظة على مصالح الأمريكيين ولن تقدم نفسها على أنها حكومة جميع الأفغان. وفي المقابل لا زالت حكومة أشرف غني تنظر إلى طالبان على أنها صنيعة باكستانية بامتياز وأنها تتحرك بالمحرك عن بعد. وكل طرف ينتظر من الآخر تنازلات للوطن وخطوات عملية تعيد الوطن فوق الجميع وتجعلهم يشاركون في بنائه. فنقاط الخلاف بين الطرفين لا زالت كبيرة وكل طرف يحمل مشروعاً سياسياً يختلف عن الآخر، ويحمل حتى علماً يختلف عن علم الآخر، ونشيد وطني يختلف عن نشيد الآخر، وفي ظل أجواء من الانقسام فالرهان على وحدة الأفغان وإنهاء نزاعاتهم قريباً لا زال رهاناً بعيد المنال.
التنازلات المقترحة:
وكانت أطراف النزاع الأفغاني قد قدمت أفكارها في إنهاء النزاع و أعربت عن أن المخرج الأفضل لمشكلة أفغانستان هو في تحقيق خطوات عملية على الأرض تكون مقدمة للعودة إلى طاولة المفاوضات ولعل أهمها:
– تطالب طالبان بإنهاء كامل للقوات الأجنبية في أفغانستان وغلق القواعد العسكرية الأمريكية وعدم السماح بالجنود الأجانب بالتواجد في المنطقة، وتدعو طالبان أيضاً إلى حل الحكومة الحالية وتشكيل حكم انتقالي يقوده أشخاص يتفق عليهم الطرفان لمدة عامين، ويتم خلالها التحضير لدستور جديد للبلاد وتشكيل نظام سياسي يتفق عليه الفرقاء وتنظيم مؤسسات الدولة المختلفة. وترى طالبان أن استمرار حكومة زكاها الأمريكيون ووصلت إلى الحكم في زمن الحكم الأمريكي ليست حكومة شفافة ولا ممثلة للشعب الأفغاني. ومن ثم فإن موافقتها على حل نفسها والدفع إلى حكومة وفاق وطني يتفق عليها الطرفان سيساعد في إنهاء الأزمة الأفغانية والعودة إلى طاولة الحوار. والملاحظ هنا أن حركة طالبان لم تطالب بإعادة إمارتها الإسلامية وحكومتها التي أسقطها الأمريكيون في عام2001 بل طالبت بعدم شرعية الحكومة التي في رأيها وصلت بدعم أمريكي خالص.
وترى حركة طالبان أنه في حالة تحققت هذه المطالب فستلجأ إلى وقف إطلاق النار فوراً و إعلان الهدنة في أفغانستان والدخول في الجهود السلمية والسياسية لإنقاذ أفغانستان.
بينما يتمثل اقتراح الحكومة الأفغانية في ضم قوات طالبان إلى مؤسسة الجيش والشرطة، حيث يتحولون إلى أفراد قانونيين يحملون السلاح تحت الحكومة الشرعية وتحت القوانين المعمول بها في الدولة، وتحل مشاكلهم الأمنية والقضائية وحتى المالية دون أن يشعر أحد منهم أن مستقبله في خطر إن هو سلم سلاحه.