سعد سعيد الديوه جي
يحتاج الفكر الإسلامي عموماً والتاريخي خصوصاً المتعلق بسير الأنبياء والرسل إلى غربلة دقيقة مما علق به على مدار قرون من أساطير وخرافات, أطلق فيها الرواة العنان لخيالهم لإعطاء صور عاطفية ومشوقة لشخصيات الأنبياء والتي تحظى بالاحترام والتقدير لدى عامة المسلمين، وهم يعتقدون بأنهم يحسنون صنعاً من وراء هذه العملية.
لقد كان المصدر الرئيس لهذه الأساطير والخرافات ما جاءت به التوراة من تفاصيل في هذا الشأن بلغت حد إهانة الأنبياء والانتقاص من عصمتهم، ثم أخذها المسلمون بشيء من الخجل مع تبريرات لا معنى لها، وخاصة في قصة إبراهيم عليه السلام.. دخلت هذه التفاصيل في معظم تفاسير القرآن، وكانت لروايات كعب الأحبار أثر في ذلك، ثم صار لها متعصبون وكتبة يرددونها بدون تفكير أو أي درجة من العقلانية؛ مما شكل خطراً جسيماً على المنهج القرآني المتفرد في هذا المجال، والذي يبحث عن الحكمة والعبرة من وراء قصص الأنبياء، والتركيز على مسألة التوحيد، وهو ما لا تعيره التوراة أي أهمية تذكر.
لقد ألحقت الإسرائيليات وتفاصيلها التي لا تقدم ولا تؤخر ضرراً شديداً داخل الفكر الإسلامي يجب التصدي له ومعالجته.
يستند بعض من المدافعين عن نهج الأخذ من التوراة إلى قدسية التوراة، وإلى نص الحديث: “بلغوا عني ولو آية وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدِّثوا عني ولا تكذبوا، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده في النار” (رواه البخاري ومسلم وابن حيان وأحمد).
وهذا الحديث رغم مصداقيته، فإن كثيراً من المفسرين لم ينتبهوا إلى أن الله سبحانه وتعالى قد قال: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) (البقرة:79)، وغيرها من الآيات التي تؤكد وقوع التحريف، ولذلك يجب أن يكون ما نقتبسه مطابقاً للنهج القرآني، وموافقاً للحقائق التاريخية الثابتة، فمن غير المعقول أن نأخذ من التوراة ما تدعيه عن زنا لوط والعياذ بالله بابنتيه (19 التكوين)، أو مسألة طرد هاجر وإسماعيل من قبل إبراهيم إرضاءً لزوجته سارة (16 التكوين)، ومسألة تعري نوح ولعنه لابنه حام (9 التكوين)، ومسألة زنا داود بزوجة قائده أوريا الحيثي (صموئيل الثاني)، وغيرها المئات من الأحاديث والأحكام والأفعال التي تخالف أبسط قواعد العدل الإلهي والمنهج القرآني الذي يمثل المنهج العام لكل الأنبياء ورسالتهم الإلهية.
وخارجاً عن هذه المقاييس، فقد انتبه رجال اللاهوت من الذين درسوا التوراة بعناية إلى هذا الأمر، فها هو سبينوزا وهو من أشهر من درس اللاهوت وأصول التوراة في القرن الثامن عشر، وصاحب الكتاب الشهير “في اللاهوت والسياسة” يقول: إذا استباح المرء لنفسه أن يفسر نصوص الكتاب المقدس (التوراة) على طريقة اليهود الخاصة، فلن يبقى لدينا نص واحد لا يمكن الشك في معناه الحقيقي! علماً أنه من أصول يهودية.
ويقول في مكان آخر: لقد فقدت الأمة العبرية كل ما يشرف الأمة ويزينها، وإن هذا الجهل باللغة وبمصادر الأسفار الأصلية قد دفع الأحبار اللاحقين ليختلقوا شروحاً كثيرة تؤكد افتقارهم لمنهج واحد لتفسير الكتاب؛ ولذلك اندفعوا إلى اختلاق أي شيء حسب هواهم؟
هذه هي التوراة المتداولة؛ ولذلك يجب عدم الركون إلى أي نص من نصوصها إلا بعد غربلته بشكل علمي تاريخي وأخلاقي وعلى كافة المستويات وخصوصاً على القواعد الإسلامية.
ففي قصة إبراهيم عليه السلام مئات الشواهد المخالفة للقصص القرآني، حيث لا يوجد أي انطباع عن جهاده في سبيل دعوته للتوحيد، وأن هجره لقومه لم يكن إلا من أجل الأرض الموعودة التي تفيض لبناً وعسلاً، تقول التوراة على لسان الرب لإبراهيم: “ارحل من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى ألأرض التي أريك” (12 التكوين).
وهذا الأمر لم يلتفت إليه معظم المفسرين وكتبة قصص الأنبياء وأشهرهم الإمام الحافظ ابن كثير الدمشقي (ت 774هـ) في كتابه الشهير “قصص الأنبياء”.
وتبدأ القصة بذكر نسب إبراهيم على أنه ابن تارح وصولاً إلى نوح مع ذكر أعمار أجداده، وهي منقولة نصاً من سفر التكوين، علماً أن أسم والد إبراهيم في القرآن هو آزر وبآية صريحة: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ {74}) (الأنعام).
والآية غاية في الصراحة بأن اسم والد إبراهيم هو آزر، فما معنى أن نأخذه بغير صيغته من التوراة وتذهب كتب أخرى في محاولات جوفاء للتبرير بين اللقب والاسم، إضافة إلى وضوح الآية بمحاربة إبراهيم للوثنية وهجره لقومه بسببها.
والتوراة تقول لنا بأن موطن إبراهيم هي أور الكلدانية في جنوب العراق الحالي، ولا يوجد أي مصدر آخر يحدثنا عن موطن آخر، ومن خلال المقارنة التاريخية للأقوام التي هاجرت من شبه الجزيرة العربية وسكنت المنطقة يبدو الأمر مقبولاً إلى حد كبير وفي حدود نهاية القرن التاسع عشر قبل الميلاد، حيث كانت بابل القديمة عاصمة للمنطقة.
تحدثنا التوراة عن اسم الجبار الذي حاجج إبراهيم وتسميه بالنمرود، وهي خرافة أخذها المسلمون على علاتها من التوراة بدون نقاش.
ففي العهد الكلداني القديم لم نعثر وفي كل المصادر عن ملك باسم ” نمرود”، وقد ورد الاسم في التوراة نفسها في سياق آخر كأول جبار على الأرض ولم يكن معاصراً لإبراهيم، وهو حسب التوراة حفيد حام من ابنه كوش الذي أصبح عاتياً في الأرض (10، التكوين)، بينما إبراهيم هو الحفيد التاسع لسام أخو حام ولا يوجد أي إشارة لالتقائهما، والذي من المفروض أن يكون في أور في بداية دعوة إبراهيم.
والأساطير حول النمرود تدعو للغثيان، وكلها تأتي من الجهل بالتاريخ القديم لبلاد الرافدين، ولا يوجد أي إشارة في التوراة لكون الجبار الذي عاصره إبراهيم هو النمرود، ولا ندري من أين دخلت هذه الخرافة في الفكر الإسلامي؟!
ومسألة إلقاء إبراهيم في النار كانت في موطنه الأصلي، وأن ألله أنجاه منها بقوله: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ {69}) (الأنبياء)، وأن الحيوان الفلاني يجب قتله لأنه كان ينفخ النار على أبي الأنبياء فإنه من باب الخيال الذي لا تبرير له.
وقصة ذهاب إبراهيم إلى مصر بسبب المجاعة في كنعان عليها الكثير من علامات الاستفهام، فيقول لزوجته سارة بأن تدعي أنها أخته “فيحسنوا معاملتي من أجلك وتنجو حياتي بفضلك” (12 التكوين).
ويأخذ معظم المسلمين ومنهم ابن كثير القصة على علاتها بدون تمحيص وهي لا تشكل إلا إهانة لأخلاق إبراهيم ويضعونها في باب الكذب المبرر، وهو أمر غير مقبول إطلاقاً، وما يتبع القصة من إعطائه الأمة (الجارية) هاجر مع الهدايا التي أنعم بها فرعون عليه والتي تهبها سارة له ليتزوجها ويخلف منها إسماعيل، وعند اليهود ابن الأمة (الجارية) لا يرث أباه ولذلك تم وضع إسماعيل خارج الإطار الديني المرسوم لقصة إبراهيم، وتم حشر هاجر على أنها أمة ولا غير.
ومن المؤسف أن ترتبط هذه الأحداث، فيشاع الحديث الذي ينقله البخاري: لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَوْلُهُ: “إِنِّي سَقِيمٌ”، وَقَوْلُهُ: “بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا”، ويستمر الحديث في نص مطول ليذكر قول سيدنا إبراهيم لسارة بأن تدعي أنها أخته حتى لا يأخذها المصريون لجمالها الآخاذ، والحديث بمجمله يشكل إساءة لأبي الأنبياء، فمن ناحية الصلة بحادثة تكسير الأصنام فإنه يستهزئ بقومه ويستخف بعقولهم، وهو ما موجود بالقرآن ولا يمكن وصفه مطلقاً بدائرة الكذب، ولكن الذين كذبوا هم من لفقوا قصة سارة مع فرعون وهم كتبة التوراة وأحبارها.
والتوراة لا تذكر مطلقاً ذهاب إبراهيم وابنه البكر إسماعيل لمكة وبنائه للكعبة وهي موطن أجداده، مما يلقي أضواءً على ما يريد وضعه اليهود وما يريدون حذفه حسب أهوائهم، ومسألة إذلال هاجر وطردها للصحراء غير مقبولة من أبي الأنبياء ويفندها القرآن الكريم بقوله: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ {37}) (إبراهيم)، فإبراهيم يقول: “أسكنت”، ولم يقل: “تركت”، وكان ذلك تنفيذاً لأمر إلهي ولا غير.
أما مسألة الذبيح التي احتار فيها كثير من المفسرين فتأتي من عدم التكامل المعلوماتي حول مجمل العملية وادعاء التوراة بأن إسحاق هو الذبيح.
إن الطقوس الوثنية السائدة قبل مجيء إبراهيم بين الأقوام الوثنية كانت تقضي بالتضحية ببواكير الأولاد والمواشي وكل شيء ترضية للآلهة، فجاء أبو المسلمين وبوحي من الله لإلغاء هذه العادة الكريهة، فبين للناس أن التضحية بهذا الشكل لا معنى لها، حيث أبدل رب العالمين إسماعيل البكر بضحية مناسبة لا رابط بينها وبين العادة القديمة المتبعة، ثم صارت إحدى شعائر الحج عند المسلمين.
هذه بعض النقاط البارزة في سيرة أبي الأنبياء والتي التبست على مفسرينا ورواة قصص الأنبياء من المسلمين والتي لا يمكن وضع معظمها إلا في باب المفتريات على أبي الأنبياء لتبرير كل الأفعال والمعتقدات اليهودية التي ألصقوها به.