إذا جاز لأحد اختزال القوى الكبرى في المجتمع المصري، فإنه سيقسمها بلا شك إلى جبهتين؛ هما الإسلاميون وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين، والعسكريون، ومن يصطف وراءهم باسم “القوى المدنية” (للمفارقة المبكية).
منذ الإطاحة بالملكية في مثل هذه الأيام منذ 63 عاماً، وتصفية القوى المرتبطة بها من الإقطاعيين والرأسماليين المحليين والاستثمارات الأجنبية، ولا يوجد في الساحة فاعل ومؤثر بشكل ملحوظ باستثناء هذين الفريقين، وحينما ساندت الحركة الإسلامية حركة يوليو 1952م، ضمن جموع الشعب، لم يغدر قيادات حركة الضباط الأحرار بالحركة الإسلامية فقط، ولا ببعض الحلفاء من الشخصيات والأحزاب العلمانية، بل بالرفاق من الضباط الذين ساندوهم، من رأس الحركة اللواء محمد نجيب، إلى أخلص رفاق عبدالناصر وهو عبدالحكيم عامر الذي “انتحروه” بعد تحميله وحده كارثة نكسة نظام “يوليو الأول”.
أما نظام “يوليو الثاني” الذي قام في الثالث من يوليو 2013م على جثة الديمقراطية بعد الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي، فارتكب مذابح متتابعة بحق خصومه الإسلاميين، ثم التفت لحلفائه من مدعي المدنية والقومية، ليطيح بهم فريقاً بعد الآخر، وشخصية تلو الأخرى، بداية بمحمد البرادعي، ومروراً بالببلاوي، ثم حمدين صباحي، ومازالت القائمة ممتدة وبشكل نلحظه في تعليقات وكتابات القوى التي تسمي نفسها قومية وناصرية (التي تقتات غالباً على الفتات السياسي للعسكريين) والمتباكية على ود مفقود ووصل مقطوع، حتى إن محمد حسنين هيكل كبيرهم المعلقة برقبته فأس تحطيم أصنامهم الصغيرة القديمة، أطلق مؤخراً عدة تصريحات ضمن حوارات بمناسبة يوليو، ألمح فيها لانعدام أمله في نظام يوليو الثاني قائلاً بالنص: “مصر تمشي إلى طريق ما”، دون الإفصاح عن الطريق وتجهيله بما يعني غموض هذا الطريق، بحسب مراقبين.
ويرى هؤلاء أن الطريق الذي كان يفترض أن نمضي فيه، لولا نظام يوليو الأول، هو ما سارت فيه اليابان وكوريا الجنوبية ودول أخرى، ووصلت إلى ما وصلت إليه لأنها لم تبتل بحركات عسكرية، و”طريق ما ” الذي تكلم عنه هيكل وتوقع أن مصر تسير فيه، ويكشف عن ذلك الطريق حالياً كل الأرقام التي تضع البلاد في ذيل الأمم على كل المستويات: التعليمية والصحية والإنتاجية.. إلخ؛ ما يعني الانحدار لقاع سحيق.
وأشاروا إلى أن نظام “يوليو2” اعتبر نفسه امتداداً لنظام “يوليو 1″، حينما رفع نفس شعاراته وطبق عين ممارساته؛ مما أشعل في نفوس الناصريين والقوميين حالة “نوستالجيا” عميقة (حنين مرضي للماضي)، وجعلهم في حالة وجد صوفي مع الجنرال الجديد الذي أيقظ داخلهم حلم الوصول للسلطة بالطريقة التي يعرفونها، أو بالأحرى الطريقة التي لا يعرفون غيرها، ألا وهي القوة المسلحة، بدلاً عن الديمقراطية النزيهة.
وأوضح المراقبون أن يوم انقلاب 3 يوليو 2013م، ظن حمدين صباحي الناصري العتيد ومن وراءه أنه قاب قوسين أو أدني من الوصول للكرسي المأمول، والذي طار منه في الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة المصرية في عام 2012م، فجاءت الصفعة قاسية، حينما برز الحجم الحقيقي للتيار الناصري ممثلاً في بضعة مئات الآلاف من الأصوات، وضعت المرشح الناصري في المركز الثالث بعد الأصوات الباطلة.
عندما جلس عبدالفتاح السيسي على الكرسي المأمول، أدرك جميع الحلفاء كم كانوا مغفلين عندما تصوروا أن العسكريين يمكن أن يغامروا أو يقامروا من أجل مصالح آخرين، وظل بعض مدعي المدنية يكابر منكراً الغفلة أو السذاجة التي تغطيه حتى أذنيه، بحسب ما ذكر مراقبون.
ناصريون ولكنهم منصفون
غير أن كثيراً من المنصفين امتلكوا الشجاعة لإعلان مواقفهم بلا مواربة، ومنهم القطب الناصري محمد فريد حسنين، رجل الأعمال المعروف الذي يعلن في كل مناسبة أنه ضد كل ما يجري عقب 3 يوليو؛ الأمر الذي جعل الكثير من الناصريين يتساءلون عن كيفية تغيير هذا القطب الناصري المعروف قناعاته من ثورة يوليو والعسكر؟ هذا الكادر الذي خطط لإحداث انتفاضة ٧٧ ضد السادات، ولم يتوانَ عن دعم الحركة الناصرية بأمواله في مواجهة مبارك، كيف تسبب الدعم الناصري غير المحدود للقمع والبطش والتشجيع على تجاهل الديمقراطية لكادر ناصري أن ينقلب إلى هذا الحد؟
ويحكي حسنين عن نفسه قائلاً على صفحته الشخصية بموقع “الفيسبوك”: سافرت إلى النمسا في نوفمبر 1957م، وعدت إلى القاهرة في أبريل عام 1965م لأكمل دراسة الهندسة في هندسة القاهرة، وأشارك والدي في إدارة ورشته, وتعرفت على أعضاء تنظيم القوميين العرب في الكلية، وقد حلوا تنظيمهم وانضموا إلى الاتحاد الاشتراكي العربي, وذهبنا في شتاء 1965م كأول فوج من طلبة الجامعات إلى دورة منظمة الشباب في حلوان، وكنت أكبر الطلبة عمراً، وأذكر أن د. مصطفى الفقي كان ضمن الفوج, وفي عام 1966م قام النظام بالقبض على أصدقائي في الكلية ضمن 3000 تم القبض عليهم بحجة أنهم ينتقدون قهر جمال عبدالناصر، واستقلت من منظمة الشباب, وكانت هزيمة يونيو 1967م بداية هجومي على عبدالناصر ونظامه القمي, وتظاهرنا في فبراير 1968م وهتفنا: “لا صدقي ولا الغول.. عبدالناصر هو المسؤل”، وحاصرنا مجلس الأمة ورئيسه السادات، واعتقلونا لمدة 3 أسابيع في سجن القلعة, ثم كان بيان 30 مارس الذي حاول عبدالناصر فيه التخفيف من القهر والسماح بقدر من حرية التعبير, وانتخبت من الكلية والجامعة ومحافظة الجيزة وصرت عضواً بالمؤتمر القومي العام.
وأضاف أنه بعد مرور 63 عاماً على انقلاب الجيش في 23 يوليو 1952م وحتى نسقط انقلاب عسكر 3 يوليو 2013م مهم أن نعرف أن التاريخ القريب علمنا أن للحرية والديمقراطية مقدسات ثلاثة؛ حرية الإعلام, واستقلال القضاء وشفافيته, وعدم تزوير الانتخابات.. إنها المقدسات الثلاثة التي يحرص نظام السيسي على ألا ترى النور.
أما المحامي المعروف أحمد قناوي وذو التوجهات الناصرية، فقد أعلنها عبر صفحته الشخصية على “الفيسبوك” قائلاً: “طوال عمري أحب عبدالناصر لدرجة أنني كنت أحلم به، رغم أني لم أعاصره إلا طفلاً، وأتذكر فقط والدي رحمة الله وهو ينتقده بشدة؛ لأنه رفع سعر باكو الدخان من قرش ونصف القرش إلى قرشين ونصف القرش، لكني كذلك أتذكر حزنه عليه حين رحل، استمر كل هذا الشعور معي حتى ٣ يوليو، بعدها وبعد أن رأيت كيف يمكن للناس وللشعب أن تكون على دين إعلامها وتبرر للقتل وللقمع، بعد أن رأيت ماذا يعني أن يحكمك رجل عسكري بوضوح وبلا مواربة، وأن كلمات مثل الوطن والجيش وتحيا مصر غطاء كاكي لكل صور القمع، أجبت صديقي اليوم حين سألني: هل ستذهب لضريح ناصر غداً؟ كان ردي: “لا” دون تفكير”.
تجاهل
ويشير المراقبون إلى أن الطلاق الذي وقع بين الناصريين ونظام يوليو الثاني، لم يكن فقط على مستوى الأشخاص، بل وصل لمرحلة الفكرة نفسها، حيث تجاهل عبدالفتاح السيسي في خطابه الأخير ذكرى 23 يوليو، في محاولة فسرها د. مصطفي السيد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، قائلاً: أظن أن هذه هي المرة الأولى منذ ٢٣ يوليو ١٩٥٣م التي لا يلقي فيها رئيس الدولة أو من يقوم مقامه خطاباً مخصصاً للاحتفال بهذه الذكرى، الرئيس السيسي اكتفى بفقرتين في الاحتفال بتخرج دفعتين من الكلية البحرية وكلية الدفاع الجوي للإشادة بثورة يوليو، وأظن أنه لم يذكر أياً من قادتها، ومعظم خطابه المكتوب كان لتحية الخريجين وتهنئتهم بالانضمام للقوات المسلحة المصرية، ثم خرج عن الخطاب المكتوب مرتجلاً ومعلقاً على كيف يمكن أن تكون القوات المسلحة والشرطة مؤسسات تربية وطنية يتخرج منها كل عام مليون من الشباب؟ وكان لافتاً للاهتمام أنه استخلص من دروس يوليو ضرورة العمل وبذل المجهود والاصطفاف الوطني.
أظن أن ذكرى يوليو ١٩٥٢م، رغم انتقادي لكثير من سياسات نظام يوليو حتى عام ١٩٧٠م، أصبحت مصدراً حرجاً لرؤساء مصر بعد رحيل جمال عبدالناصر، ولكنهم وحتى المستشار عدلي منصور تعاملوا معها بطريقة احتفالية، ويشاء الرئيس السيسي أن يختزلها في فقرتين في خطاب ألقاه في مناسبة أخرى، حتى وإن تصادفت هذه المناسبة مع اليوم السابق على ذكرى الثورة.