سمير حسن
نجح ميلوراد دوديك، رئيس الجمهورية الصربية في البوسنة، الأسبوع الماضي في الحصول على قرار من برلمان صرب البوسنة بتنظيم استفتاء على عمل القضاء في البوسنة في غضون ستة أشهر، ويوضح دوديك أنه إذا أبدى المواطنون رفضهم لعمل المؤسسات القضائية؛ فإن ذلك يعني عدم تطبيق أحكام هذه المؤسسات في الجمهورية الصربية، مبرراً ذلك بأن الاستفتاء يعد دفاعاً عن اتفاق “دايتون” للسلام.
فكرة الاستفتاءات التي يعتمد عليها دوديك في تسويق نفسه وحزبه (اتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين المستقلين) تعود إلى تسع سنوات خلت، لم يتوانَ خلالها رئيس الجمهورية الصربية في البوسنة عن المطالبة بتنظيم استفتاء لانفصال الجمهورية الصربية عن البوسنة.
لم تعد هذه المطالبة من أجل الترويج السياسي لحشد تأييد قومي لسياسة أو حزب دوديك، حيث بدأ ذلك في حملته الانتخابية عام 2006م، فقد تجاوز مرحلة الترويج إلى استخدام إستراتيجية جديدة بتحويل المطالبة بالاستفتاء على الانفصال إلى الاستفتاء على آلية عمل القضاء البوسني؛ بسبب الأحكام التي أصدرها ضد صرب البوسنة فيما يتعلق بجرائم الحرب والتطهير العرقي التي ارتكبوها أثناء الحرب (1992-1995م).
ولكي نفهم خطورة ما يدعو إليه دوديك، يجب أن نعلم أن البوسنة تتكون من كيانين حسب اتفاق “دايتون” للسلام الذي أنهى الحرب البوسنية في عام 1995م؛ الأول: فيدرالية المسلمين والكروات، والثاني: الجمهورية الصربية (صرب البوسنة)، ولكل كيان مؤسساته بينما هناك مؤسسات بوسنية مجمعة يندرج تحتها المسلمون والصرب والكروات.
تحدي صرب البوسنة للغرب
جاءت موافقة برلمان صرب البوسنة في تحدٍّ واضح للمواقف الدبلوماسية الغربية التي سبقت موافقة البرلمان وعبرت عن رفض فكرة الاستفتاء بدءاً بالسفارة الأمريكية في سراييفو، ثم طلب الاتحاد الأوروبي من دوديك أن الشيء الوحيد الذي يقبله الاتحاد من المسؤولين البوسنيين هو الإصلاح وليس الاستفتاء، وذهب المندوب السامي في البوسنة إلى التحذير من أن هذا الاستفتاء سيتسبب في عزلة للجمهورية الصربية برئاسة دوديك.
وقانونياً يعتبر الاستفتاء باطلاً؛ إذ إن تنظيم الاستفتاءات من اختصاص الدولة وليس الكيانات المنضوية تحتها، ويعتبر خبراء القانون في البوسنة الاستفتاء مخالفاً لدستور كيان صرب البوسنة نفسه، أما سياسياً فهو غير مقبول أيضاً؛ لأنه خطوة من جانب واحد، كما أن المندوب السامي السابق في البوسنة ميروسلاف لايتشاك طلب من دوديك عام 2011م عندما بدأت فكرة الاستفتاء على مؤسسات القضاء بالتراجع عن هذه الفكرة مقابل إجراء حوار بخصوص النظام القضائي في البوسنة، إذن لماذا يدفع دوديك باتجاه الاستفتاء؟
لماذا يصر دوديك على الاستفتاء؟
أولاً: تهديد دوديك بالاستفتاء على انفصال الصرب عن البوسنة أو لرفض عمل مؤسساتها المجمعة يحظى دائماً بدعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ دفاعاً عن الالتزام التاريخي والديني الأرثوذكسي للصرب، ويكفي أن بيتر إيفانكوف، السفير الروسي في مجلس تطبيق السلام في البوسنة، هو الوحيد الذي رفض التوقيع على تصريح للمجلس يعتبر أن استفتاء صرب البوسنة على المؤسسات القضائية انتهاك صارخ لاتفاق السلام، وقال: إن تنظيم الاستفتاء يعد من الشؤون الداخلية للبوسنة التي لا ينبغي لأحد التدخل فيها.
أما رئيس وزراء صربيا الحالي ألكسندر فوتشيتش، فلا يعارض لا الانفصال ولا الاستفتاء، فهو يقول: لا أتدخل، وعلى دوديك أن يعيد التفكير في الأمر، لكن الاستفتاء على المؤسسات القضائية يبقى كخيار إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، ومن هنا يفضل فوتشتيتش تجميد فكرة الانفصال حالياً، ويطلب من دوديك إعادة التفكير في الاستفتاء؛ نظراً لأن فوتشيتش يسعى حالياً للتقرب من الاتحاد الأوروبي لقبول صربيا عضواً في الاتحاد.
غير أن فوتشيتش لا يزال كغيره من المسؤولين في بلجراد الذين يدعمون دوديك أو أي مسؤول من صرب البوسنة يقودون سياسة مزدوجة المعايير، ولا يستطيعون بل لا يريدون إفهام دوديك وغيره أن عاصمتهم ينبغي أن تكون سراييفو وليس بلجراد.
ثانياً: يستند دوديك في موقفه إلى أنه لا يدعو إلى بدعة سياسية، وإنما هناك سابقة في استفتاء كاتالونيا بل واستفتاء إسكتلندا، ويردد دوديك دائماً أن الكفاح من أجل استقلال الجمهورية الصربية أهم أولوياتنا، مبرراً ذلك في حوار مع “فيتشرني نوفست” الصادرة في بلجراد في 14/ 6/ 2014م أن المجتمع الدولي يضغط من أجل بقاء البوسنة على الوضع الحالي دولة غير فاعلة ومفككة وتراجيدية وكوميدية لا تقدم حياة أفضل لمواطنيها.
إذن يستخدم دوديك الاستفتاء على المؤسسة القضائية كتكتيك يهدف إلى إيصال رسالة إلى الاتحاد الأوروبي أن البوسنة غير مستعدة للإصلاح الذي يتوقعه الاتحاد من المسؤولين البوسنيين، إضافة إلى ذلك يعرقل دوديك أيضاً هذا الإصلاح من أجل تفعيل فكرة الانفصال عن البوسنة، وفي هذا السياق يرفض انضمام البوسنة إلى “حلف الناتو”؛ لأن ذلك يتعارض مع مصلحة روسيا.
وقد ساعد الدستور الناجم عن اتفاق “دايتون” صرب وكروات البوسنة على شل حركة المؤسسات البوسنية، فمواقع المسؤولية في هذه المؤسسات يجب أن تقسم على ثلاثة، رغم أن ذلك لا يعبر عن التوزيع السكاني، فالمسلمون 48%، والصرب 31%، والكروات 17%، حسب إحصاء عام 1991م، رغم إجراء إحصاء في أكتوبر 2013م، إلا لنفس الأسباب القومية التي تعطل البلد بأكمله، تعطل إعلان النتيجة النهائية للإحصاء، ويكفي أن مجلس الرئاسة البوسني المكون من مسلم وصربي وكرواتي يجب أن يأخذ قراراته بالإجماع وليس بالأغلبية، ويتسبب ذلك إلى المصالح السياسية والقومية لكل حزب من الأحزاب الكبرى في البوسنة في تعطيل الحلول التي يقدمها الاتحاد الأوروبي لحل المشكلات البوسنية، كما يعرقل أيضاً الحصول على قروض من صندوق النقد الدولي.
موقف مسلمي البوسنة
يعي قادة مسلمي البوسنة خطورة ما يدعو إليه دوديك، فهم يعلمون أن الحرب في البوسنة أصلاً اندلعت؛ لأن صرب البوسنة بزعامة رادوفان كراجيتش أعلنوا في 9 يناير 1992م ما يسمى بجمهورية صرب البوسنة؛ أي قبيل إعلانهم الحرب على البوسنة في 6 أبريل 1992م، ويفهم المسلمون أن انفصال الصرب يعني انفصال الكروات، وقد ينشئ صرب وكروات البوسنة دولة جديدة خاصة بكل منهما، أو ينضم الصرب لصربيا والكروات لكرواتيا، وبذلك تتفكك البوسنة ويبقى المسلمون في جيب صغير يقع كماشة الصرب والكروات، ولذلك فهم يكافحون منذ عام 1996م على بقاء البوسنة في كيان واحد ضعيف أفضل من اندثاره تماماً، والحافظ على مؤسسات الدولة غير الفاعلة، وراضون بما يفعله الصرب والكروات من عرقلة هذه المؤسسات خيراً من ألا تكون هناك مؤسسات أصلاً.
السيناريوهات المتوقعة
1- لا تراجع ولا استسلام عن فكرة الاستفتاء والانفصال، وإنما تأجيلها حيناً وإظهارها حيناً آخر من أجل الضغط على مسلمي البوسنة والاتحاد الأوروبي لتحقيق مكاسب سياسية لميلوراد دوديك شخصياً أو لحزبه أو حتى لصرب البوسنة عموماً.
2- المضي قدماً في تحدي الغرب بإنجاز الاستفتاء على عمل المؤسسات القضائية خاصة، وأنه سيكون بمثابة فأر تجارب للاستفتاء الأكبر وهو الانفصال عن البوسنة، وقد لا يعني إنجاز الاستفتاء تنفيذ نتائجه، وإنما قد يتدخل الاتحاد الأوروبي وفق سياسته المعهودة بوضع روشتة حلول، لكنها كالعادة تتوقف على اتفاق المسؤولين البوسنيين عليها بالإجماع، وهو ما يستغرق وقتاً طويلاً وقد لا يتحقق في النهاية.
3- لا استفتاء ولا انفصال حسب ما يعتقد قادة أحزاب صرب البوسنة المعارضين لدوديك، الذين يرون أن نهاية دوديك السياسية تقترب؛ ولذلك فإن دعوته للاستفتاء مجردة، وأنه رغم إظهاره للتحدي وأنه الأقوى لكنه يخشى عواقب إجراء هذا الاستفتاء وتحدي الغرب.
وتؤكد تصريحات دوديك الأخيرة لتلفزيون صرب البوسنة أن الباب مفتوح أمام تحقق هذه السيناريوهات؛ إذ يقول: “أنا مستعد للتفاهم حول الاستفتاء إذا وجدوا حلاً لهذه المشكلة، فالبرلمان مستعد للتصويت على ذلك”.
وأياً كان السيناريو المرجح، فإن على أرض الواقع لن يتخلى المسؤولون السياسيون في البوسنة عن مواقفهم التي تقدم المصلحة القومية على مصلحة الوطن، وستظل المؤسسات غير فاعلة، والاتحاد الأوروبي ينتظر الإصلاح، وشكوى المواطن لا تنتهي من سوء الأوضاع.