في الثامن مارس من كل سنة يحتفل العالم بـ”عيد” سمي بـ”عيد المرأة”، حيث يكثر من طائفة، معروفة الفصل والأصل، الصراخ والعويل والبكاء على واقع المرأة، بينما تحن فئة أخرى إلى موروث عفى عنه الزمن لا صلة له بالإسلام قطعاً، فكلا الفريقين يدعي وصلاً بليلى، وواقع ليلى لا يقر لهم بذاك، حتى إذا انبجست حقيقة ليلى، وانقشعت مأساتها ظهر الذي بكى ممن تباكى.
ومعنى هذا أن قضية المرأة يتقاذفها تياران:
أولهما: تيار تجار السياسة حيث هؤلاء أصبحوا من كبار “البزانسة” بمعاناة المرأة في المحافل الدولية والوطنية، لهم اتجاهات مختلفة من علمانية وحداثية ولبرالية وهلم جرا من المذاهب، لا يهمهم سوى أن تكون المرأة في العالم الإسلامي والعربي على النموذج الغربي، تتمتع بحريتها المطلقة، وتفعل في جسدها ما تشاء، فتمنحه لمن تشاء، وتكشفه متى أرادت ومع من أرادت، لا حسيب ولا رقيب، ولا يحصل لها ذلك إلا إذا تخلصت من سلطة الدين والأخلاق والأعراف وسلطة الآباء. فكل هذه السلط تعكِّر صفو حياة المرأة “الراقية المتحضرة”.
والحق أن تجار السياسة والأيديولوجيات الفاشلة يتقاضون أموالا كثيرة من أسيادهم، وبرامج من أوليائهم وأوصيائهم. وبعض النساء المسكينات لا يدرين ما وراء الكواليس من المتاجرة بقضيتهن. ولو فطنّ بعض الشيء لوجدن باب الدار مفصحا عما بداخلها، يعني أن اللواتي يتزعمن “النضال” من أجل حقوق المرأة من العلمانيات والحداثيات سيرتهن في المجتمع معروفة كالشمس في رابعة النهار. لا تحتاج إلى دليل، إلا قليلاً.
وغير خاف على المجتمع أن بعض الحداثيين ممن يتغنون بحقوق المرأة يدوسون عرضها ويستغلون جسدها باسم الحرية المزيفة، وينقضون على أنوثتها، وفي المحافل يولولون وينددون، فهل هذا هو تكريم المرأة والعناية بها.
ثانيهما: التيار التراثي “المحافظ” وهذا لا يزال في سبات عميق لم يستوعب رسالة الإسلام تجاه المرأة، بل يمزج بين ما هو أعراف وتقاليد وموروثات بنصاعة الإسلام، والأدهى والأمر حين يحسبها من الإسلام وهو منها من مكان بعيد. لايزال من هؤلاء من لا يسمح للمرأة أن تختار رفيق دربها في الحياة الزوجية، ومنهم من يحرم عليها العمل أو المشاركة في الحياة العامة ثقافية كانت، أو اجتماعية، أو سياسية، أو فنية وفكرية، ومنهم من يحرم عليها حتى سياقة سيارتها، واللائحة طويلة وعريضة.
كل هذا التخلف يمارس باسم الإسلام. ولو رجع كل من له مسكة من عقل إلى نصوص الإسلام (القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة) وواقع العهد النبوي خاصة، بما له من رمزية ودلالة لوجد ما يجول في خلد هؤلاء لا خطم له ولا أزمة، بمعنى لا يعبر عن واقعية الإسلام، ونظرته للإنسان سواء كان امرأة أو رجلا بروح حضارية ورقي فريد ومتميز، وإنما أوتي هذا التيار من ضيق العطن في فهم روح الشريعة ومقاصدها وكلياتها. والمقام هنا لا يتسع لذكر نماذج يمكن البناء عليها، ومن خلالها بلورة تصور حضاري راق حول قضية المرأة، ولكن لا يفوتني أن أحيل على مصدرين مهمين: الأول كتاب (تحرير المرأة في عصر الرسالة) لعبد الحليم أبي شقة رحمه الله، الذي أخذ منه زهاء عشرين سنة لتأليفه. والثاني: كتاب (التراتيب الإدارية أو الحكومة النبوية) للعلامة عبد الحي الكتاني رحمه الله.
فأين المرأة المسكينة من هذين التيارين، أين هي في واقع الحياة اليومية؟
إنها لا ريب في تلك الأرياف والجبال الوعرة، تعاني من لسع البرد، وفي الصحراء من حر الرمضاء، وفي البوادي من تعب الحياة وشدتها، وشظف العيش، وعضة الجوع مع عيالها وصغارها.
إنها المرأة المسكينة التي تعمل في شركات وبيوت المترفين والمستبدين ليل نهار، بأجر زهيد، وتهديد ووعيد، وبابتزاز خسيس، وتحرش جنسي أثيم،.. إنها المرأة المسكينة التي تعمل في ضيعات الفلاحة، وقد اعوج ظهرها وتقوس من كثرة الانحناء، وتجعد جلدها وخشن ففقد ليونته وجماله، حتى صار مثل جلد الحيوان. وكم تأسفت كثيرا حينما أرى في طريقي لزيارة أقاربي نساء وفتيات في عز شبابهن يركبن مثل الأغنام والأبقار في سيارات شحن (مرسديس 307) أو شاحنات، وهن مكدسات مثل السردين في العلب، ليذهبن إلى ضيعات “السادة”، بلا رحمة ولا شفقة.
إنها المرأة المسكينة الموظفة البسيطة التي تعاني وتكابد الحياة، حيث تركت رضيعها أو ولدها في رياض الأطفال، وهي تفكر في صراخه وبكائه عند مفارقته، فتسرع لمواجهة محنة وسائل النقل، ولا تعود إلا وابنها قد قضى يوما كاملا في سجن الروض، لا يأكل ولا ينام ولا يستريح بالشكل المطلوب المنسجم مع نموه. إنها المرأة المسكينة التي تعاني من ويلات الحروب مشردة مع أبنائها وأقاربها، ملطخة بدمائهم، متسولة بهم عبر أنحاء العالم، مغتصبة في عرضها، منتهكة في شرفها، وهي تعاني من كل الأمراض النفسية والاجتماعية والبدنية، انظروا إلى حال المرأة الفلسطينية وهي في سجون الاحتلال الصهيوني الإسرائيلي وما تكابده من الظلم والقهر.
وتأملوا في حال المرأة السورية وما فعله بها الاستبداد والطغيان الدكتاتوري لنظام بشار الأسد وحلفائه من المجرمين العتاة الفجرة الكفرة من الشيعة والروس. وتدبروا في حال المرأة العراقية وما تعانيه من مأساة القتل والتشرد والإبادة الطائفية المتوحشة.
وانظروا إلى حالة المرأة المسكينة الإفريقية وفي ميانمار وبورما وغيرها من الدول، وخاصة بلاد المسلمين، إنها مأساة يتفتر القلب ويموت كمدا من جرحها الغائر الذي تسبب فيه كل ظالم فاجر، طاغية قاهر، ليس له من أسلوب الحياة إلا ما كان لفرعون اللعين في سياسته الظالمة الفاجرة حين قال: (سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون).
فأين المنظمات الدولية التي تعنى بحقوق المرأة، فتناضل حسب زعمهم من أجل كرامتها وحقوقها، أفلا يبصرون، أم على أعينهم غشاوة، أم أن سياسة الغرب لها حساباتها الخاصة، وهي مراعاة مصالح الغرب وأمريكا، وليكن ما بعدها ما يكون، فلتقتل هذه المرأة ومن معها، ولتتشرد وليفعل بها ما يفعل، المهم هو أن تحيى مصالح الغرب وتصان ليس إلا. ولا يستقيم لهم ذلك إلا بتمزيق هذا العالم الإسلامي وخاصة العربي منه تمزيقا، ويقطع إرباً إرباً.
إنها السياسة الفرعونية التي تجعل الشعوب شيعا متناحرة، وأحزابا متقاتلة، ودولا متباغضة، وفرقا متخاصمة، والمعتمدة على قاعدة “فرق تسد”. طبعا لم يحصل هذا في أمتنا إلا حين تخلينا عن هدي ربنا، فأصبحت عندنا قابلية الانخراط في سياسة الأجنبي والانبطاح في ثقافته وفكره وسياسته التدميرية.
وأين المناضلات والمناضلون، والتراثيون، فهل من الحداثة والعلمانية والتراثية عدم تنظيم وقفات احتجاجية بمكان تواجد هؤلاء النسوة والشابات، ومشاركتهن مشاكلهن، والدفاع عنهن؟ أم أن الحداثة تبحث عن المناصفة فقط للحصول على المناصب العليا والامتيازات الكبرى؟ أم أن أصحاب الشأن لا ينصحون بذلك، وإنما الاحتجاجات محصورة في العداء لكل ما هو من الإسلام قطعا. إن المرأة ليست بحاجة إلى ورود تقدم لها في عيدها، بالرغم ما لها من دلالة رمزية، وإنما هي في حاجة ماسة إلى من يرفع عنها معاناتها اليومية طوال السنة، وطوال حياتها كلها ويقدرها وينزلها المنزلة اللائقة بها، ولا يتاجر بقضيتها، وهذا هو عيدها الحقيقي والواقعي.
المصدر: رابطة العلماء السوريين.