يعاني عدد من دول العالم من آثار مدمرة للمجاعة، في عصر بات العالم قرية صغيرة، ولكن هذا العالم ما زال لا يعرف سوى لغة الأقوياء، وأصبحت مصطلحات الرحمة والتكافل نسياً منسياً في قواميسه، في ظل هيمنة منطق القوة، والبحث عن المزيد من المنافع.
فها نحن أولاء نجد في عدد من البلدان، وفي مقدمتها الصومال واليمن وجنوب السودان ونيجيريا، الناس يموتون باليل والنهار جوعى؛ لما لحقهم من جفاف وحروب، فلم يقف الأمر عند افتراشهم الأرض والتحافهم بالسماء، بل امتد إلى عجزهم عن توفير ما يسد رمقهم والبقاء على قيد الحياة.
إن حجم الأزمة وتلك المأساة يظهر من تحذير الأمم المتحدة من أن العالم يواجه أسوأ أزمة إنسانية منذ عام 1945م، وإطلاقها نداء عاجلاً للمساعدة من أجل تجنب وقوع كارثة، وفي هذا الإطار، قال «ستيفن أوبراين»، مسؤول الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة: إن 20 مليون شخص يواجهون مجاعات في اليمن والصومال وجنوب السودان ونيجيريا، وشددت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) على أن 1.4 مليون طفل قد يموتون جراء الجوع هذا العام.
إن هذه المأساة تضع دول العالم، وفي القلب منها الدول الإسلامية، على المحك، والأمم المتحدة مطالبة بالكف عن الكلام وإبراز جوانب العمل لإنقاذ تلك الأرواح التي تشتكي لربها من ظلم إخوانها من البشر لها وتركها للجوع يفتك بها، كما ينبغي على الدول الإسلامية بما تملكه من إمكانيات ومؤسسات خيرية فتح باب التكافل والرحمة مع الجوعى والوصول إليهم وبذل الجهد لإنقاذهم.
الإسلام والتكافل الاجتماعي
إنه لا يوجد دين على ظهر الأرض حفظ للإنسان كرامته كالإسلام، هذا الدين الذي جعل من أسسه الاقتصادية تحقيق التكافل الاجتماعي ليس بين المسلمين وحدهم بل بين البشر أجمعين، فكيف الحال إذا كان من يموتون من المجاعة في جلهم مسلمين؟!
إن التكافل الاجتماعي ينطلق من مفهوم الاستخلاف الذي جعل ذلك التكافل مبنياً على أسس عقدية وإيمانية وأخلاقية، وقائماً على التكامل والترابط، فيبدأ بالفرد ثم الأسرة ثم المجتمع ثم الإنسانية جمعاء حاضراً ومستقبلاً.
عن جابر رضي الله عنه قال: أعتق رجل من بني عذرة عبداً له عن دبر، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “ألك مال غيره؟”، فقال: لا، فقال: “من يشتريه مني؟”، فاشتراه نعيم بن عبدالله العدوي بثمانمائة درهم، فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إليه، ثم قال: “ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا.. يقول: فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك” (رواه مسلم).
وعن أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أن لا حق لأحد منا في فضل من كان له فضل زاد” (رواه أبو يعلى).
وعن أبي موسى رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم” (رواه البخاري).
وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما يؤمن من بات شبعان وجاره طاو إلى جنبه” (رواه ابن أبي شيبة).
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” (رواه مسلم).
وعن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” (رواه مسلم).
وعن سالم عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته” (رواه مسلم).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه” (رواه مسلم).
كما أن التكافل الاجتماعي لغير المسلمين يبدو واضحاً فيما رواه جرير رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء” (رواه الطبراني)، كما مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قومٍ، وعليه سائلٌ، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، وقال: مِنْ أيِّ أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسألُ الجزيةَ والحاجةَ والسنَّ، فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منـزله فرضخ له بشيء من المنـزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءَه، فواللهِ ما أنصفناه أنْ أكلْنا شبيبته ثم نخذلُه عند الهَرَمِ!
إن إنقاذ تلك النفوس البشرية المحاطة بالمجاعة والحروب بات من الأهمية بمكان، وفي مقدمة الأولويات لمن كان في قلبه ذرة من إنسانية، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة: 32).