تتضمن بعض أسئلة استطلاعات الرأي في المشاريع العالمية الاجتماعية ما يتعلق بالإلحاد والتدين والسؤال عن الصلاة والله جل وعلا وغيرها من الغيبيات والمعتقدات، وتتنوع صيغ الأسئلة وتختلف النتائج وما ينبثق عن ذلك من إشكاليات فهمها وتأثيرها وطرق التعامل معها.
لقياس التدين والإلحاد غايات متنوعة قد تجمع الضدين لغايات بحثية علمية
لقياس التدين وما يقابله من إلحاد غايات متنوعة قد تجمع الضدين من الطرف المتدين أو الملحد أو بينهما لغايات بحثية علمية في فهم المجتمعات ومعتقداتها، ويعد هذا المجال من المجالات الحساسة ولا سيما في مجتمعاتنا، ولذا طالما كنا نواجه تحدي طرح أسئلة من هذا القبيل في بعض المشاريع الاستطلاعية التي انخرطت بها بشكل مباشر، فأذكر كيف كان السؤال عن «هل تؤمن بوجود الله؟» مثار تفكير ونقاش مع لجنة في الإدارة المركزية للإحصاء الكويتية حينما انضمت الكويت لأول مرة لمشروع مسح القيم العالمي (WVS) الذي بدأ في الثمانينيات وينفذ في أكثر من 60 دولة حالياً.
مفهوم الدين
ثمة أسئلة أخرى في قياس التدين في ذات مسح القيم العالمي مثل: ما مدى أهمية كل من الأمور التالية في حياتك؟ ومنها الدين أو الله، والسؤال عن الإيمان الديني باعتباره من الصفات التي يمكن تشجيع الأطفال على تعلمها في المنزل، وأيضاً مدى الثقة بالمؤسسات الدينية (المساجد، الوزارة، الجماعات الدينية، الجمعيات..)، ومفهوم الدين إذا كان اتباع القواعد والطقوس الدينية، أو عمل الخير للآخرين أو كلاهما.
56 % من الأمريكيين يرون أنه ليس من الضرورة الإيمان بالله حتى تكون أخلاقياً
وفي سلسلة استطلاعات منظمة “بيو” (Pew) لاستطلاعات الرأي، وردت أسئلة تقيس الإيمان بوجود الله، وعلاقة الإيمان بالله على السلوك الأخلاقي والقيم، حيث بينت بعض نتائج استطلاعات رأي الأمريكيين انقساماً فيما إذا كان من الضرورة الإيمان بالله حتى تكون أخلاقياً وصاحب قيم جيدة، حيث أجاب 56% في آخر استطلاع يونيو 2017م أنه ليس بالضرورة، مقابل 42% من أجابوا أنه بالضرورة.
كما توسعت أسئلة الإيمان بالله لدرجة السؤال عن إذا كان المستجوَب صلى ودعا الله أن ينجح فريقه الرياضي المفضل، أو رأيه بشكر بعض الرياضيين الله عند فوزهم، أو فيما إذا يعتقد المستجوَب أن الله تدَخل في نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016م كما في استطلاعات “PRRI”! ومدى التفكير بالله والدين ومدى الشك بوجود الله؛ حيث بينت آخر نتائج استطلاع “«PRRI/RNS Religion News Survey، في يونيو 2016م، أن ما يقرب من ثلاثة أرباع الأمريكيين لا يشكّون بوجود الله، وهو ما يتفق مع العديد من نتائج جهات أخرى مثل نتيجة سؤال منظمة “جالوب” (Gallup) المباشر في عام 2016م: هل تؤمن بوجود الله؟ حيث أجاب 89% بنعم، وأجاب 10% بالنفي، و1% دون رأي، ومثل هذه النسب في استطلاعات “بيو” كذلك.
أغلبية ساحقة من الشعوب تؤمن بوجود الله مع استثناءات قليلة في الصين واليابان وهونج كونج
ولعل من أشمل مشاريع استطلاعات الرأي التي تقيس التدين والإلحاد بالتفصيل، مشروع Religion Study of the International Social Survey Program) (ISSP)) ، الذي تكرر عدة مرات في الأعوام 1991، 1998، 2008م، ومن المتوقع أن ينفذ في عام 2018؛ حيث أتيحت لي الفرصة بمراجعة بعض استمارة المسح والاطلاع على أسئلة مباشرة حول نظرة المستجوَب لله، ومدى القناعة بوجوده، والغيبيات الأخرى بالتفصيل كالجنة والنار والإيمان بالمعجزات الدينية.. إلخ، كما تحاول أسئلة هذا المشروع الدخول بعمق في معرفة الإيمان بالله من عدمه من خلال سؤال المستجوب عن مراحل زمنية بالإيمان بالله وتغيراتها والنظرة للحياة بما ترتبط بالإيمان بالله، كما تتضمن استمارة الاستطلاع أسئلة أخرى من شأنها التعرف على أفكار وتوجهات المستجوب المتدين والملحد في مسائل حياتية متنوعة.
كما تنوعت أسئلة أخرى حول كيفية التعامل مع الملحد، ومدى قبول المجتمع للإلحاد (atheism،Godlessness)، حيث تشير بعض نتائج استطلاعات Princeton Survey Research Associates International إلى نمو قبول المجتمع الأمريكي للإلحاد برغم أنه أغلبيته الساحقة تؤمن بالله، وهذا يتفق مع العديد من قضايا الرأي العام، حيث تكون الأغلبية لها رأي مغاير، ولكنها تقبل الرأي الآخر، كما هي الحال في موضوع الشذوذ الجنسي على سبيل المثال.
لا مساواة بين الأديان التي تقوم على عبادة حيوان أو شجر أو أشخاص وغيرها مع الأديان السماوية
الأغلبية تؤمن بوجود الله
ومن خلال نظرة عامة على نتائج استطلاعات رأي مسح القيم العالمي (WVS) في الموجة السادسة 2010 – 2014م في السؤال المباشر حول الإيمان بالله، يتبين لنا أن أغلبية ساحقة من الشعوب تؤمن بوجود الله مع استثناءات قليلة في الصين واليابان وهونج كونج وبعض الدول الأوروبية، حيث لا يؤمن أكثرها بوجود الله، كما انقسمت بعض الشعوب في إيمانها بالله مثل كوريا الجنوبية، وهولندا، وتشير نتائج الشعوب العربية والإسلامية القليلة التي شملها المسح، التي أبقت السؤال بأن الأغلبية الساحقة جداً تؤمن بوجود الله، وقد وصلت في بعض الدول 100% مثل الأردن والجزائر وباكستان، وقريب منها في العراق وليبيا وماليزيا، وأذربيجان ولبنان وتركيا.
تحتاج نتائج الأسئلة الخاصة بالإلحاد إلى الانتباه لعدة أمور مهمة، مثل الحذر من مجرد المقارنة دون التعرف على دين كل شعب من الشعوب التي سئلت، فلا يمكن مساواة بعض الأديان التي تقوم على عبادة حيوان أو شجر أو أشخاص وغيرها مع الأديان السماوية، وربما هذا ما يفسر انخفاض نسبة الشعوب ذات الديانة البوذية في الإيمان بوجود الله مقابل الأديان السماوية، فكما هو معروف أن شعوب الصين واليابان غالوا في تقديس بوذا حتى ألّهوه، وفي مقابل ذلك فإن ارتفاع نسبة الإيمان بوجود الله والانخفاض الحاد في نسبة الإلحاد في مجتمعات ليس من السهولة الإقرار بالإلحاد تحتاج لمراجعة حتى وإن كانت النسبة ضئيلة جداً كما هو في المجتمعات العربية، فكلنا يعرف أن هناك من الملحدين العرب لا يصرحون إلا في بعض مواقع الإنترنت “الحوار المتمدن”، وكقناة “الملحدين بالعربي” والمنتديات، كحال منتدى اللادينيين العرب أو السوريين أو التونسيين وغيرها فضلاً عن قنوات “اليوتيوب”.
الأسئلة التي سعت لمعرفة درجة الإيمان والشك تحتاج لتطوير لتحقق الهدف
التوسع في فهم الإلحاد
من تجربة ممارس في قياس الرأي، ومع تعقد ظاهرة الإلحاد والشك، وما لها من ارتباط بالتطورات المتعلقة بالتطرف والحرية الإلكترونية، فإن الأسئلة التي سعت لمعرفة درجة الإيمان والشك تحتاج لتطوير ليحقق هدف معرفة درجة الموافقة والاعتقاد أكثر من مجرد السؤال بــ«نعم» أو «لا»، ولعل المعنيين والمهتمين أيضاً بحاجة للتوسع في فهم الظاهرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية للتعرف على دوافع الشك، وما يقابله من أسباب الإيمان بالله لوضع وسائل وخطط عملية لتعزيز الإيمان ومعرفة كيفية مخاطبة الملحدين أو من يخالطهم الشكوك لا سيما من فئة الشباب.
وفي هذا السياق، أشير إلى تصور مشروع استطلاعي اطلعت عليه مؤخراً يستحق أن يرى النور في وقت قريب لمركز أفق المستقبل للاستشارات السياسية والإستراتيجية، حيث يحاول التوسع في فهم ظاهرة الإلحاد والبحث عن إجابة لأسئلة مهمة؛ مثل: هل الإلحاد أصبح ظاهرة أم لا؟ التعرف على الفئات العمرية والشرائح الاجتماعية التي ينتشر فيها الإلحاد، ما الأسباب وراء انتشار الإلحاد وأبرز الشبهات وراء انتشارها؟ ما العلاقة بين الإلحاد والتطرف أو الجمود الديني؟
من سلبيات أسئلة قياس التدين والإلحاد أنها تُسقط قدسية الموضوع بالسؤال عنه
ينظر البعض إلى أن أسئلة قياس التدين والإلحاد لها سلبيات عديدة، من أبرزها إسقاط هيبة الموضوع المقدس بالسؤال عنه، ولا سيما إذا كان بطريقة مجردة تناسب حيادية قياسات الرأي العام، ولذا فإن السؤال الذي أشرت إليه عن وجود الله حذف من استمارة دولة الكويت في مسح القيم العالمي لهذا المبرر، بالإضافة لمبررات أخرى منها بأن ثمة أسئلة أخرى تقيس التدين وأهمية الدين يمكن الاستدلال منها.
لا شك أن أسئلة التدين والإلحاد رغم حساسيتها فإن لها أهميتها لفهم المجتمعات وتغيراتها والتوجهات الحديثة، ولا سيما مع انتشار شبكات التواصل والتفاعل الاجتماعي، التي اقتحمت الكثير من الحواجز الفكرية والمقدسات؛ مما يتطلب معرفة كيفية التعامل معها باحترافية، وقبل ذلك قياسها بمهنية وحيادية.