يرقد على سرير صغير، وفوقه مثل عظمة السلحفاة الكبيرة، وعلى يمينه في الأمام نافذة كبيرة، إذا اطلعت على ما في خارجها لوجدت عالماً من الحركة والحياة، فالعصافير تشقشق في غناء جميل، وتطير في حرية بين أغصان الأشجار العالية التي بدأت أوراقها تتلون بألوان رائعة متداخلة من الأصفر والأخضر والأحمر قبل موسم الخريف، وبدأت بعض الأوراق في السقوط وكأنها تتلون بأشعة الشمس الذهبية وهي تتراقص بين الأشجار، لتقع في بحيرة الماء التي يسبح فيها البط في مجموعات أسرية، الأم وراءها فراخها في طابور منسق.
حط عصفور صغير ذو صدر ملون على قاعدة النافذة لكني لم أره.. سمعته كأنه يناديني أن انطلق.. لا أستطيع أن أراه لأقول له: لا أستطيع، فأنا محبوس تحت الرئة الحديدية لتساعدني على التنفس.
أعرف أن هناك سرراً في هذه المصحة عليها أولاد وبنات مثلي، لكن هذا العصفور اختار نافذتي.. سمعته الأم التي تأتيه كل يوم لتقضي معظم وقتها معه لتطعمه وتسقيه وتنظفه، وطلبت بأدب من الممرضة أن تركّب له المرآة أمام وجهه ليرى ما خلفه.. ليرى العصفور كما يحدث أثناء حصص الدراسة الخاصة في المصحة حينما تركب له المرآة ليرى من خلفه من مدرسين وأطفال.
لم تنس الأم حبات القمح التي تنثر للعصفور صديق ابنها هناك، وهي تركب القطار الذي يمخر الغابات الطبيعية جنوب لندن، التي تركت كما هي على جانبي الطريق (الحديدي)، ومع صوت العجلات المتكرر وهي تعبر فواصل الحديد، ينبض قلب الأم شفقة وألماً.. ألا يشبه هذا الصوت حركة الرئة الحديدية حينما يفرغ الجهاز من الهواء فيصبح الضغط سلبياً فيرتفع الصدر وتمتلئ الرئة، فإذا سمح للهواء مرة أخرى بالدخول خرج هواء الرئة من أنف وفم طفلها، يتكرر ذلك ست عشرة مرة في الدقيقة.. كأنما تسمعه الآن تتداخل أصوات تنفسها وتنهدها مع تنفسه وحركة الجهاز مع حركة القطار.
وحركة القطار تنفي الخضوع لليأس حتى لو كان المرض هو الشلل؛ شلل الأطفال.
لم يكف لسانها عن رطوبة الذكر والدعاء وقد عقدت العزم أن تلتقي بالطبيب اليوم.
– سيستمر في الرئة الحديدية لوقت لا نعلمه، فإذا تحسن فسيحتاج إلى علاج طبيعي مكثف قد يستمر شهوراً طويلة أو سنين عدداً، المهم أن ينجح العلماء في الوصول إلى التطعيم ضد فيروس شلل الأطفال للجيل القادم.
– وأنا معكم بكل ما أملك من وقت ومال وروح وبدن!
بدأ الخريف يمضي قدماً إلى الشتاء بزمهريره وجليده.. وأمام مدفأة الفحم جلست وفتحت كتاب التشريح من كتب زوجها المتوفى ترى صور العضلات المشلولة وتعدّها عدّاً، وفي كل ليلة وقد اظلمّ الأفق وغابت النجوم وطالت ساعات ليل الشتاء تقف للمناجاة.
وصورة ابنها تهتز مع انهمار الدموع اختارت أن تقيم الليل وتصلي لله.. كل ليلة ركعة عن كل عضلة من عضلات ابنها الكثيرة ليعيد لها رب الحياة حركة الحياة، لقد نذرت كل وقتها لابنها وإيمانها ويقينها برحمة الله وقدرته سيجعل قوة الروح في ولدها تنتصر على ضعف الجسد فيه.
ومرت الشهور ولا يزال العصفور يأتي زائراً يلتقط الحب خارج النافذة ويراقب برعشاته صوت الهواء في رئتي صاحبه ومضخة الهواء في نهاية السرير.
ولم تكف الأم عن صلواتها بالليل وزياراتها بالنهار تكلمه مشجعة وتبث فيه الأمل والقوة.. تلمس وجهه الخارج من الرئة الحديدية بكل ما حوت شفقة الأم من حب صادق وتضع يدها على ذلك المعدن البارد الذي يحيط به تود أن تخرجه منه وأن تغمره بأحضانها.
خذوا عضلاتي وازرعوها في ابني حتى يعيش ويتحرك.. ابتسم الطبيب وقال عضلاتك كبيرة عليه.
كانت ترقب في رحلة القطار أطفال المدارس وهم يمرحون في حيوية ونشاط وتشعر أحياناً بشللها هي، شلل التفكير فيما تفعل، وشلل القدرة على فعل شيء لابنها، وأحياناً تراه هناك واحداً من هؤلاء الذين يملؤون أفنية المدارس حركة وجرياً.
ومرت سنتان وهي لا تتوقف عن زيارة ابنها في المستشفى وتمكث معه أطول فترة ممكنة لرعايته وتشجيعه وبث الأمل في روعه، لا يوقفها إلا مواعيد القطارات.. ولقد ربط بينها وبين والطبيب والممرضات صداقة حميمة فهي تغمرهم بطيب الكلام والهدايا ولا تتوقف عن مساعدتهم في العناية بفلذة كبدها الذي لا يزال يتنفس بالجهاز.
كانت تجد قوة غريبة حينما تعود إلى البيت البعيد منهكة لما تبدأ في الوضوء للصلاة والاستغراق في الدعاء، ولقد فوضت الأمر لله وهي تلهج بالكلمة العظيمة: الله أكبر.
كنت أراقب من خلال المرآة بعض الأطفال وقد خرجوا من الرئة الحديدية، منهم من يمسك ذراعاً مشلولة بذراع سليمة، ومنهم من يعرج، ومنهم من يمشي بعكازين، وكانوا رغم ذلك فرحين بعد المدة الطويلة التي قضوها داخل هذه الرئة التي هي أشبه بتابوت الموتى، وما إن أبدأ في مرحلة اليأس والاكتئاب والبكاء حتى تأتي أمي كنسمة الهواء العليل ترد إليّ روحي وتسقي وردة الأمل التي زرعتها فيّ فأشمها من جديد بأجمل ما تكون الرائحة، تغمر نفسي، وأنسى ما كنت أنوي فعله، أرى في وجهها المشرق كل أطياف الأمل ونبضات الحياة.
ومر عامان آخران شهدت فيه الأم تكثف الضباب وعتو الرياح وتراكم الجليد وانهمار المطر واسوداد السحاب وسطوع الشمس.. وهي لا تتغير عزيمة ومضاء وقوة كقوة الحديد الذي صنعت منه الرئة الحديدية.
جئت في الصباح كعادتي بعد مرور الطبيب ودخلت إلى حيث الرئة الحديدية التي يمكث داخلها ابني.. وأصابني الذهول حين رأيتها خالية، ما زالت رائحته الجميلة المميزة فيها وأكاد أرى صورة بسمته خلال المرآة المعلقة على رأس الجهاز.. تدحرجت دموعي كاللؤلؤ الثمين فلم أبك قط في هذه المستشفى ومسحتها بسرعة حين رأيت الممرضة تسرع الخطى إليّ لتأخذ بيديّ برقة وأنا لا أستطيع أن أفتح شفتي.. إلى أين؟ في الحجرة المجاورة وجدت «يحيى» يحيا بين الأطفال وهم تحت رعاية اختصاصيات العلاج الطبيعي.. لا تسلني عما حدث.. كل ما أتذكره الآن هو أنني اندمجت معه واختلطت به وذبت فيه وغسلت وجهه بدموع فرحتي.. رغم أنه لا يزال لا يستطيع المشي أو تحريك ذراعيه.
ومرت الشهور.. وسألني «يحيى» عن عصفوره الذي كان يأتيه في الغرفة الكبيرة.. وبدأنا معاً نضع حبات القمح على الشباك الجديد لعله يأتي.. وكنت آتي يومياً أساعده في تمرينات العلاج الطبيعي، وفي الربيع لاحظت عصفوراً أصغر – بنفس الشكل – لعله فرخ جديد للأم التي كانت تأتي.
وفي يوم حينما وصلت قالوا لي: إن الطبيب يريدك، فدق قلبي سريعاً وزاغت عيناي بعيداً ولم أنطق إلا بالدعاء والرجاء والرضا.. أخذ هو الآخر بيدي ومشى بي صامتاً ثم قال للممرضة: افتحي الباب، كانت لحظات طويلة توقف فيها نفسي وإذ به «يحيى» يخرج ماشياً – بعرجة لم ألاحظها – إليّ.
أمي.. كان ذلك منذ ستين عاماً.. ومنذ ثلاثين عاماً مشيت إليك بعرجتي وأنا أحمل شهادة الدكتوراه في احتفال التخرج بجامعة كمبريدج العريقة لأقبّلك على جبينك قُبلة الشكر الصادق.. ولأهمس لك يا حبيبتي.. لم تنقذني الرئة الحديدية.. بل أنقذتني أمي الحديدية.