إنه أعظم نبأ، وأصدق نبأ، وأهم نبأ، هو للأولين والآخرين، والمؤمنين والكافرين، للشيوخ والشباب، والرجال والنساء، وللجنّ والإنس، أرسل الله من أجله الرسل، وأنزل الكتب، ووضع الميزان، وعلم الإنسان البيان؛ ليحسن التلقي ويتم التمحيص والابتلاء، ويظهر صدق العاملين بما علموا حين تُبلَى السرائر، وقد ذكره الله تعالى في كتابه، وأعد للمؤمنين به أعظم الجوائز، الرضا والخلود السرمدي في جنات النعيم.
قال تعالى: (عَمَّ يَتَسَاءلُونَ {1} عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ {2} الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ {3}) (النبأ)، والنبأ في اللغة يعني الخبر، وهو هنا خبر البعث بعد الموت كما ذكر قتادة، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغه الناس، فقال له: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ {67}) (ص)، قال السعدي: «أي: ما أنبأتكم به من البعث والنشور والجزاء على الأعمال، خبر عظيم ينبغي الاهتمام الشديد بشأنه، ولا ينبغي إغفاله» (تفسير السعدي)، ولِمَ لا يكون عظيماً وقد ورد إلينا ذكره من الله العظيم في آيات عديدة، كما في قوله: (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ {36}) (الأنعام)، (وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ {7}) (الحج)، (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ {16}) (المؤمنون)، وساق معه الأدلة الحسية والعقلية التي تؤدي إلى التصديق به واليقين بوقوعه، كما في قوله: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (الروم: 27)؟!
لمَ لا يكون عظيماً؛ وهو يومٌ يقوم فيه الناس من قبورهم حفاة عراة غرلاً، قياماً طويلاً في أرض المحشر لا يعلمون أين مآلهم ومستقرهم؟! (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {6}) (المطففين).
يوم البعث من مقتضيات العدل الإلهي حيث فيه الحساب والجزاء لتفاوت أعمال الناس في الدنيا
لِمَ لا يكون عظيماً؛ وفيه تعرض الأعمال على الله وتُحاسب كل نفس بما عملت، وتتطاير الصحف، ويوضع الميزان، ويُنصب الصراط، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: «رب سلِّم، رب سلّم» (رواه البخاري).
لِمَ لا يكون عظيماً ومن هوله وشدته تنقطع أواصر القربى وروابط المودة؛ (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ {34} وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ {35} وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ {36} لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ {37}) (عبس)، فمن آمن به يقيناً عمل له، ومن عمل له سعد وأفلح وفاز في الدنيا والآخرة.
الإيمان بالبعث بعد الموت
ولا يتم الإيمان ويكمل بغير الإيمان بالبعث يوم القيامة، قال تعالى: (وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً {136}) (النساء)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع؛ يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر» (صحيح ابن حبان)، وقد ذكر ابن كثير في تفسيره أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه، عز وجل، على وقوع المعاد ووجوده، وذلك في قوله: (وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ {53}) (يونس)، وقوله سبحانه: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) (سبأ: 3)، وقوله عز وجل: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {7}) (التغابن).
إن العدل الإلهي يقتضي أن يأتي يومٌ يُبعث فيه العباد للحساب والجزاء، حيث يتفاوت الناس في الدنيا بين مؤمن بالله وكافر، ومطيع له وعاصٍ، وظالم ومظلوم، كما أن فيها المبتلَى والمعافَى، والفقير والغني، فهل يستوي هؤلاء جميعاً أمام الله عز وجل في الحساب؟ قال تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ {35}) (القلم)، ومتى يجازَى المحسنون ويعاقَب المسيؤون إذا كانت حياة كل منهم تنتهي بالموت؟ لقد ذهبت إذاً حكمة الخلق والابتلاء، وبالتالي الثواب والعقاب، والجنة والنار! فعلامَ يعمل العاملون إن لم يكن لهم لقاء بالله الذي أحبوه وعملوا من أجله؟ وما الذي سيردع العادين عن غيّهم وعدوان نفوسهم إن لم يكن هنالك عتاب وعقاب ووقوف للسؤال والحساب بين يدي العزيز الجبار؟! وقد قال تعالى: (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ {21})
(الجاثية).
على المربين الاهتمام بغرس المفاهيم التي تؤدي لتقوية اليقين والإيمان بيوم القيامة في نفوس الأبناء
الإيمان بالبعث وأثره في تزكية النفس
والإيمان بالبعث والحساب له أثره ودوره التربوي في تزكية النفس وإصلاحها والارتقاء بها، فهو طريقٌ لصلاح القلب الذي هو ملك الجوارح، وهي تصلح بصلاحه، ومن هنا وجب على الوالدين والمربين وأولي العلم الاهتمام بغرس المفاهيم التي تؤدي لتقوية اليقين والإيمان بيوم القيامة.
وتبدأ التربية منذ الصغر وبأمور مبسطة ودون تعقيد، فمثلاً ما نشاهد من تساقط أوراق الأشجار في فصل الخريف إنما هو موت لها، ويبعث الله فيها الحياة حين يأتي موسم الربيع، وما ازدهار الورود وفوح عبيرها من بعد ذبولها وموتها إلا حياة وإحياء لها، وما نومنا بالليل وفي أي وقت إلا موت لنا، والاستيقاظ منه بعث لنا وحياة، وإن الله تعالى القادر على الخلق ابتداء لهو أقدر على الإعادة وهي أهون.
كما أن خلق السماوات والأرض وما فيها من آيات ودلائل تؤكد أن البعث هين على الله، فإذا ما تأكدت هذه المفاهيم وثبتت يقيناً في القلب فإنها سرعان ما تتحول إلى طاقة من العمل والسعي، وشحنة إيمانية قوية دافعة للمزيد منه، تدعو للاستعداد له.
من الدروس التربوية للإيمان بالعبث
– أن من آمن بالبعث علم يقيناً أنه ميت، وأن جميع الخلائق ستموت، قال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ {26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27}) (الرحمن)، لكن الموت ليس نهاية له، بل هو بداية الطريق لدار الخلود السرمدي، حيث الراحة والسعادة في جنات النعيم، فأعدَّ لذلك العدة وشمّر لها.
– ومن آمن بالبعث أيقن أن الله على كل شيء قدير، وأنه سبحانه حيّ لا يموت، فيتوكل عليه ويثق بقدرته، قال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) (الفرقان: 58)، قال ابن عاشور: «في الآية إشارة إلى أن المرء الكامل لا يثق إلا بالله؛ لأن التوكل على الأحياء المعرضين للموت وإن كان قد يفيد أحياناً لكنه لا يدوم».
– ومن آمن بالبعث علم أنه لم يخلق عبثاً، وأن بعد الدنيا داراً آخرة، فيها الخلود الأبدي، فعمل لها ولم يغتر بدنياه، قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ {115}) (المؤمنون).
– ومن آمن بالبعث استعد للوقوف بين يدي ربه للسؤال، فأعد العدة لذلك بتقوى الله وطاعته وخشيته، قال تعالى: (وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {93}) (النحل)، قال ابن عاشور: «والسؤال كنية عن المحاسبة».
– ومن آمن بالبعث نبذ الأهواء المضلة واتبع القرآن والسُّنة، وعدل في حكمه، وحسن في خلقه، وتأدب في معاملاته بأدب الشرع.
من آمن بالبعث أيقن أن الله على كل شيء قدير وأنه سبحانه حيّ لا يموت فيتوكل عليه ويثق بقدرته
– ومن آمن بالبعث ازدادت خشيته لله ومراقبته في كل وقت، وصدق في ظاهره وباطنه، فهو يوم قال الله عنه: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ {9}) (الطارق)، «والسرائر: جمع سريرة، وهي ما يُسِرّه الإِنسان ويُخفيه من نواياه وعقائده، وبَلْو السرائر: اختبارها وتمييز الصالح منها عن الفاسد، وهو كناية عن الحساب عليها والجزاء» (تفسير ابن عاشور).
– ومن آمن بالبعث أكثر من الأعمال التي تثقل ميزانه، قال تعالى: (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ {6} فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ {7}) (القارعة).
– ومن آمن بالبعث اطمأن إلى عدل الله، فإن عجز عن تحصيل حق له، أو عجز عن دفع الظلم والأذى عن نفسه، فإن الله سينصفه من ظالمه ويرد عليه حقه، وقد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ {30} ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ {31}) (الزمر)، قال ابن عباس: «يخاصم الصادق الكاذب، والمظلوم الظالم، والمهديّ الضالّ، والضعيف المستكبر» (تفسير ابن كثير).
– ومن آمن بالبعث فإنه يسارع برد المظالم إلى أهلها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه» (رواه البخاري)، وقال: «أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» (رواه مسلم).
ومن آمن بالبعث فإنه يجعل الآخرة همّه؛ فيجتنب ما يغضب الله، ويفعل ما يرضيه، يحاسب نفسه ويتزين للعرض الأكبر.
ولا يزال لرحمة الله راجياً، ولجنته طالباً، ومن النار هارباً، يأمل لقاء من يحب من أهله وخلانه الذين فارقوه بالبعد أو الموت، ويشتاق للقيا خير الأحبة محمد صلى الله عليه وسلم، وصحبه.