أنا ربة منزل شابة في مقتبل العمر بالعقد الثالث، رزقني الله سبحانه وتعالى بزوج وطفلين، أحدهما 9 سنوات والآخر 4 سنوات، مرَّ على زواجي حوالي 10 سنوات، وزوجي ولله الحمد متفوق ومتفان في عمله.. وهنا تكمن المشكلة، فهذا المنصب الذي يشغله بجدارة وأفتخر به في كل المجالس يستحوذ على كل وقته تقريباً.
بداية، هو لا يقصر معي كزوجة؛ فهو كريم في عطائه المعنوي والمادي، ويهتم بالتزاماته الزوجية، إلا أن علاقته بابننا الكبير ليست بالعلاقة السوية التي ترجوها أي أم، خاصة أنه يدرك حجم انشغال والده عنه؛ فأحاول التعويض عن نقص الاهتمام من والده رغم ما يغدق عليه من هدايا وملابس..
لكن ليست هذه كل ما يحتاجه الابن من والده في أي مرحلة عمرية، ولأننا نسكن مباشرة بجوار بعض أقاربنا، فإن ابني الأكبر متعلق جداً بهؤلاء الأقارب ولا يطيق البعد عنهم، وأخشى أن يزداد الانفصال النفسي بين ابني ووالده، وأدرك ما سوف يشعر به كلما تقدم به العمر في مرحلة المراهقة ثم الشباب.
ولقد حاولت مراراً وتكراراً أن ألفت نظر زوجي إلى خطورة هذه العلاقة وأهميتها في تنشئة الابن التنشئة السوية، ولكن هيهات؛ فرغم أن زوجي يسمع، فإنه للأسف ينشغل بعمله، ويستمتع به أكثر من متعته بالجلوس مع ابنه، رغم أن هذا الابن -كما أراه ويراه الكثيرون- ناضج وذو شخصية رائعة، وسيكون إن شاء الله -إذا أحسنت تربيته- خير صديق ورفيق لوالده، وسيشاركه حتى مناقشاته في عمله إن شاء الله، وهذا حدسي بذلك الابن.
فأرجو أن تدلني على منهج عملي لإصلاح وحل هذه المشكلة، وجزاكم الله خيراً.
التحليل
هذه المشكلة عامة، وتكاد تكون سمة لمعظم الأسر في عصرنا هذا، ويرجع ذلك إلى العديد من الأسباب؛ منها الاقتصادية نتيجة لكثرة المتطلبات، وقلة فرص العمل، ولهذا يتفانى الآباء معظم اليوم لتوفير أسباب الرفاهية التي أصبحت عند كثير من الأسر مطلباً ملحاً في كل الحاجات الإنسانية، ومنها أسباب اجتماعية، فرغم أنه لا يمكن لأي إنسان أن يشغل أي وظيفة إلا بحصوله على المؤهلات والخبرات المناسبة فإن معظم الوظائف الاجتماعية كالأمومة والأبوة والزوجية تمارس بالتجربة والخطأ.
أيضاً الخصائص النفسية للجيل الحديث تتطلب معارف ومهارات عالية من الوالدين؛ نظراً للانفتاح التقني من خلال الفضائيات وأجهزة الكمبيوتر المنزلية التي تعرفوا عليها من سن سنتين وما قبلها.
وقد تكون هناك أسباب تاريخية نتيجة نشأة الوالدين، واعتقادهما أن ما صلحت به تربيتهم يمكن أن تصلح به ذريتهم، وقد تكون لأسباب شخصية؛ فقد يجد الأب ذاته في نجاحاته العملية والإشادة الوظيفية، ويطغى ذلك على كل أدواره الاجتماعية، وهناك أسباب عديدة أخرى قد تسبب المشكلة التي أثارتها هذه الأم.
خطورة المشكلة
نقول دائماً: «استثمر في أولادك قبل أن تستثمر لأولادك»، بمعنى أن الساعات التي يقضيها الوالدان في تربية أولادهما من خلال الصحبة واللعب والحوار هي الاستثمار الأول لهما ولأولادهما، كما يحتاج الأولاد إلى النمو الجسدي بالتغذية والرعاية الصحية والنمو الروحي والنمو العقلي، وقد نعهد بكل هذه الأدوار عند انشغالنا إلى الآخرين، وفي المقابل يحتاج الطفل أيضاً إلى النمو الوجداني الذي لا يمكن أن نوكله إلى آخرين للقيام به.
وتشير الدراسات إلى أنه رغم احتياج الإنسان عبر مراحل عمره إلى النمو الوجداني، فإن المفاهيم والقيم عن التفاعل الوجداني الذاتي ومع الآخرين يتم تأصيلها عبر السنوات الأولى من عمر الإنسان خاصة ما قبل سن المدرسة.
إن أي اضطراب في علاقة الطفل بوالديه في هذه المرحلة يؤثر سلباً على أوجه نموه الثلاثة الأخرى، وقد يؤدي اضطرابها إلى الجنوح في تعويضها، وقد قيل: إننا نحتاج لكلمة حب لنحيا ولمسة حنان لنتميز، وحضن دافئ لنتواصل؛ لذا فإن الدور الأساس للوالدين خاصة في مرحلة الطفولة هو الحرص على النمو الوجداني المتوازن للأولاد، وهذا لا يتم من خلال العطاء المادي فقط رغم أهميته، ولكن بالتواصل الكامل مع الأولاد.
إن أنجح الأساليب التربوية تتم من خلال التلقي أثناء اللعب والمرح؛ فرغم أعباء الرسالة النبوية وقيادة الأمة وحمل هموم هداية الإنسانية فإنها لم تشغل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أن يعطي بسخاء عاطفة الأبوة لبناته رضوان الله عليهن وكذا لأحفاده، فكان يضع ظهره للحسن والحسين ويقول: «نعم الجمل جملكما».
قد يتخيل الوالدان أن انشغال الوالد قد يعوضه تفرغ الأم، وهذا خطأ كبير، فالنمو الوجداني المتوازن يحتاج مشاعر الأمومة والأبوة معاً، وثبت أن ارتباط الولد بأمه عوضاً عن أبيه قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية تؤدي إلى اضطرابات سلوكية في مراحل الصبا وبدايات المراهقة.
عندما يشتكي لي أحد الأصدقاء من أن ابنه الشاب أو المراهق يعزف عن صحبته إلى صحبة أصدقائه الذين يعلمون عنه أكثر مما يعلم هو، وأن هناك فجوة نفسية بينهما، وأن دوره فقط الدعم المالي له؛ أقول له: إن ذلك نتيجة طبيعية لخطأ ارتكبته خلال سنوات طفولته، ويبرر ذلك للأسف أنه كان يبني مستقبله.
إن التربية من خلال المثل والقدوة لا تتأتى إلا من خلال المصاحبة، إن صناعة الغد أمانة هذا الجيل في تنشئة الجيل القادم، حيث يروى أن امرأة ذهبت بولدها إلى أحد الشيوخ، وطلبت منه أن يربيه ليصبح مثل محمد الفاتح، فسألها عن عمره، فقالت: بلغ الخامسة، فرد عليها: لقد فات الأوان.
العلاج
يجب عليك أيها الأب الكريم أن توظف علاقتك الطيبة بزوجتك، كما أشادت بك وتميزك في عملك وكل معارفك وخبراتك بإخلاص النية لله لإعانتك على حسن تربية أولادك وعدم الخلط بين الأولويات؛ فلا بد أن يكون لابنك الحق في أن تقضي معه يومياً من ساعة إلى ساعتين على الأقل، بمشاركته ألعابه، والحوار معه، والإجابة عن كل استفساراته.
وهناك العديد من الكتب القيمة والقنوات الفضائية وصفحات الإنترنت التي تحتوي على كنوز وخبرات في تربية الأولاد، وعلى كيفية استخدام الحاسوب المناسب لعمر الابن، كما أن صحبتك معه للمسجد على الأقل في صلاة العشاء ليس فقط لتعويده على الصلاة وقيمتها في حياة المسلم، ولكن تكسبه الثقة في نفسه عندما يصلي مع الرجال ويغشى مجتمعاتهم.
أما عطلة نهاية الأسبوع فلا بد أن يكون له يوم كامل خارج المنزل، ويشعر أن هذا اليوم من أجله هو، والحرص كل الحرص ما لم يكن هناك عائق على ذلك، ولا بد من الاهتمام إذا كان العمل اليومي لك أيها الأب يستغرق كل يومك أن تتصل بابنك أثناء وقت العمل وتنصت له وتسمع منه وتعطيه الإحساس الكامل، أنك معه هذه الدقائق، وتسمعه أنك مشتاق لرؤيته وأن تأخذه في حضنك، وتدريجياً يتعود الابن على هذه المكالمة، ومطلوب من الأم أن تعود الابن على السؤال عن والده بالمثل أثناء الدوام.. وهكذا.
إن شعور الابن باهتمام من جانب والده يجذبه إليه، ويتم ذلك من خلال نظرات الود والتقدير التي يبثها الأب له من خلال الإنصات والاهتمام لحديثه، وعدم إهماله لحدوث أي عارض، وإن كان فيعتذر له.
إن محاولة إشراكه في الحياة الأسرية من خلال سؤاله عن رأيه في المكان الذي يود زيارته في نهاية الأسبوع، أو دعوة الأسرة التي يعرف أبناءها، واختيار نوع الطعام الذي سيتناولونه.
إن كثيراً من اللمسات التربوية التي قد تفعلها الأسرة تساهم وتؤسس علاقة الارتباط السوية بين الطفل وأسرته عندما يشب إلى دور الصبا والشباب تظهر آثارها من خلال انتمائه الأسري، وحرصه على تمام الوئام مع والديه.