– لماذا يقررون الإقامة الجبرية للإسلام بين أربعة جدران وعزله عن الحياة؟
– الماضي والتاريخ يؤكدان أن الإسلام نظام سياسي متقدم سبق الغرب ونظرياته
– النظريات السياسية الإسلامية تتناول جوانب العمل السياسي حفظاً للدين والدنيا
– كتاب علي عبدالرازق كان مرجعاً للكتابات الرافضة للإسلام والساعية إلى إقصائه
شهدت العقود الأخيرة حالة من الصراع الفكري غير المؤسس على منهج علمي، أو سياق منطقي، بين مَنْ يُسمون أنفسهم العلمانيين في البلاد العربية، والتصور الإسلامي الصحيح؛ فقد ألحوا على بعض القضايا التي تُقصي الإسلام، وتضعه في دائرة «إستاتيكية» (ساكنة)، بعيداً عن قضايا المجتمع والحركة الإنسانية المتفاعلة مع الواقع وهموم الناس.
ولم تكن قضايا المرأة، والخطاب الديني، واللغة، والأصولية، والإرهاب، والظلامية، إلا جزئيات نحو هدف أكبر؛ هو فصل الدين عن الدولة، وإلزامه الإقامة الجبرية بين أربعة جدران، والتعامل معه مثلما يتعامل الغرب مع الكنيسة، علماً أن هذه لها دور إستراتيجي مهم في علاقة الغرب بالعالم.
كان الحديث عن فصل الدين عن الدولة، وإحلال العلمانية منهجاً وسلوكاً في بلاد المسلمين في بدايته يمضي خجولاً، وفي إطار محدود، على يد نفر من نصارى الشام ومصر، أوائل القرن العشرين، من أمثال أصحاب المقتطف والمقطم، وكانت آراؤهم تُغلّف بالرغبة في تحديث البلاد والنهوض بها علمياً وثقافياً واجتماعياً، ومفارقة الجهل والتخلف والضعف الحضاري.
كان طرح الفكرة العلمانية يحمل ضمناً اتهاماً للإسلام بأنه سبب تخلف المسلمين وضعفهم وجهلهم وتأخرهم عن أمم الأرض، وكان الطرح من جانب النصارى مفهوماً، أما ما لم يكن مفهوماً فهو قيام شيخ أزهري من علماء الأزهر بترديد ما سبق إليه النصارى، وإصداره في كتاب يحمل عنوان «الإسلام وأصول الحكم»، يرفض فيه أن تكون للإسلام صلة بالواقع أو السياسة أو قضايا المجتمع، ويرى أنه دين شخصي قاصر على العبادات، وأن الخلافة أو الحكم في بلاد المسلمين ليس من الإسلام في شيء!
وقد استنتج بعض الباحثين أن الكتاب الذي ألَّفه الشيخ علي عبدالرازق ليس من تأليفه، وإنما هو من تأليف غيره من غير المسلمين، وقد وضع اسمه عليه لحاجة في نفس من وضعوا الكتاب.
وقيل: إن الرجل في أواخر أيامه أراد أن يعلن رجوعه عما ورد فيه، كما يروي من عايشوه في هذه الفترة، ولكن الموت عاجله، وحرم الناس من إعلان موقف كان سيُحدث تأثيراً كبيراً في الحياة الفكرية الحديثة والمعاصرة.
اهتمام كبير
وللأسف الشديد، فقد اهتمت عناصر معادية للإسلام من بني جلدتنا بهذا الكتاب اهتماماً كبيراً، تغذيه نزعاتهم المادية الصرفة، وكراهيتهم المقيتة للدين الحنيف، وولاؤهم المباشر أو غير المباشر للثقافة الغربية الغازية! وخاصة أنه أحدث رد فعل على المستوى العام عند صدوره، حيث سقطت وزارة، وانفضّ ائتلاف، وحدث ارتباك كبير في السياسة المصرية، لأنه كشف عن تيار خطير موال للثقافة المعادية للإسلام.
إن الناشر الذي طبع الكتاب عام 1925م طبعه مرة أخرى، وفي العقود الثلاثة الأخيرة، قامت الهيئة الرسمية للنشر في مصر بطبعه مرات عديدة ضمن كتب ما يسمى مكافحة الإرهاب، أو التطرف، أو التشدد، وقد طبع في سلاسل شعبية رخيصة الثمن؛ مثل سلاسل المواجهة والتنوير ومكتبة الأسرة، كما قامت دور النشر العلمانية في بيروت والقاهرة بإعادة إصداره في طبعات أنيقة متعددة، وكانت مجلة «الطليعة» الشيوعية التي أصدرتها «الأهرام» في الستينيات أول من نشر الكتاب (ضمن عدد نوفمبر 1971م) بعد حوالي خمسة وثلاثين عاماً من صدور طبعته الأولى، كان كتاب علي عبدالرازق مرجعاً ومتكأ للكتابات الرافضة للإسلام، والساعية إلى إقصائه واستئصاله من الواقع الاجتماعي، وهي كتابات موجهة من سلطات الاستبداد في العالم العربي، حيث ترى أن الإسلام خطر على وجودها الظالم!
اتهام ضمني
وتبع تلك الدعوى اتهام ضمني للمسلمين بأنهم يفتقدون وجود نظرية أو نظريات سياسية إسلامية تماثل ما لدى الغرب، وخاصة ما يتعلق بالعقد الاجتماعي بين السلطة الحاكمة والشعب، ولعل هذا كله كان دافعاً لـ د. محمد رياض الريس(1) لتأليف كتابه المهم «النظريات السياسية الإسلامية»، الذي تضمن رداً غير مسهب على كتاب علي عبدالرازق.
وقد ألَّف الرجل فيما بعد كتاباً مفصلاً يرد فيه على فكرة نفي الحكم عن الإسلام وفكرة الخلافة، وهو «الإسلام والخلافة في العصر الحديث – نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم» (375 صفحة)، وصدرت طبعته الأولى عن دار التراث، بيروت (1976)، ويضم قسمين: أحدهما يناقش التفسيرات المعاصرة لكتاب «الإسلام وأصول الحكم»، والآخر يتناول الكتاب نفسه، ويفند ما جاء فيه من آراء وأفكار ودحضها.
وأهمية ظهور كتاب «الإسلام والخلافة في العصر الحديث» -كما سبقت الإشارة- مستمدة من أنه يناقش القضايا الخطيرة التي تضمنها كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، وهو الكتاب الذي خرج به مؤلفه على الناس، ونال ظهوره شهرة لم ينلها كتاب آخر.
الدولة الحديثة
صدر كتاب «النظريات السياسية الإسلامية» أول مرة عام 1952م، وبين أيدينا الآن طبعته الخامسة، صادرة عن دار المعارف بمصر 1969م، بهدف إثبات أن الفكر الإسلامي لم يهمل الموضوع السياسي ومسائله، وأن المجتمع الإسلامي في خلال عصوره المتعاقبة نجح في إنشاء دول، بل إمبراطوريات بلغت -دون مبالغة من الدقة- في أنظمتها وإداراتها وأساليبها ما لم تبلغه النظم الإدارية التي ألِفها العالم قبل وجود هذا المجتمع.
ثم إن «الدولة الحديثة» التي نقلت أوروبا من العصور الوسطى والفوضى الاجتماعية أو النظام الإقطاعي كانت اقتباساً إلى حد قريب أو بعيد من الدول التي كانت موجودة في الشرق الإسلامي لذاك العهد، كما أن النهضة القانونية التي حدثت في أوروبا كانت صدى لنشاط الدراسات القانونية في الممالك الإسلامية، فكان الفقه أو القانون هو المادة الأولى، في جميع كلياتها، ونشأت الجامعات في إيطاليا وفرنسا متأثرة بهذه الروح، عاملة على تنفيذ المنهج وفق النمط الذي شهدته في الشرق.
يتكون الكتاب من مقدمة وسبعة فصول ومراجع عربية وفرنجية (60 مرجعاً عربياً، و20 مرجعاً فرنجياً)، والفصول تتحدث عن تكوّن الدولة الإسلامية، ونشأة النظريات الإسلامية في السياسة من عهد إلى عهد، والإمامة ومباحثها وماهيتها، والإسلام ووجوب الحكم، والعقد السياسي ومسائله، والدولة والشروط والواجبات، وقواعد النظام الإسلامي.
علم النظريات السياسية
عني الغربيون بدراسات النظريات السياسية لمفكريهم في العصور المختلفة، فدرسوا آراء الإغريق والرومان والمدافعين عن حقوق البابوية أو الإمبراطورية في العصور الوسطى وفلاسفة العصور الحديثة، وأصبح علم النظريات السياسية علماً متميزاً له كيانه الخاص، عظيم القيمة كبير الخطر، وصار يدرّس في جامعات أوروبا ضمن العلوم التاريخية، أو فروع الفلسفة، فيطلق عليه «الفلسفة السياسية»، أو مباحث الدراسات القانونية، ولا سيما الدستورية، أو أحد ألوان المعارف العامة التي لا بد منها لكل من السياسي وعضو الهيئات النيابية، والمصلح الاجتماعي، والمواطن الصالح الذي يريد أن يؤدي واجبه لبلاده خير الأداء. (ص7).
سؤال: أين مكان الفكر الإسلامي من هذا الإنتاج الإنساني العام؟ ألم يكن في الإسلام مفكرون سياسيون؟ ألم يُنتج الإسلام تفكيراً سياسياً؟
يثبت الكتاب أن المسلمين فكروا في السياسة، وكوّنوا لهم نظريات عنها، غير أن بحثهم كان تحت اسم آخر، وكانت لغتهم غير مألوفة في العصر الحاضر، كانت نظرياتهم جزءاً من مباحث الفقه، أو علم الكلام، أو التاريخ، أو الفلسفة، أو الأدب، كما يوجد بعضها في تفاسير القرآن الكريم، وشروح الأحاديث النبوية الشريفة، وكلها تكوّن ثروة عظيمة القيمة، جديرة بالعناية والدراسة، وتضاهي ما أنتجته أوروبا في بعض عصورها الزاهية، بل إن من هذه النظريات ما لم تصل أوروبا إلى معرفته إلا بعد أن قطعت شوطاً طويلاً في طريق التطور. (ص9).
وبصفة عامة، يتميز التفكير الإسلامي بمميزات أساسية، أهمها:
1- أنه نشأ نتيجة للتطور التاريخي.
2- كان يقصد أن تصاغ عناصره، في صيغة قانونية، حتى يمكن بقدر ما تسمح به الأحوال؛ في حياة الجماعة العملية.
3- كان مرتبطاً بالقيم الأخلاقية، وهو ما يميزه عن الغربي في كثير من عصوره، لأن هذه القيم هي غاية التفكير الإسلامي الأساسية.
4- يمكن في العصر الحاضر الانتقال بما انتهى إليه من نتائج أساسية إلى مجال التجديد والتحديث.
وغاية كتاب د. الريس بما قدمه من مادة توصف بأنها نظريات سياسية إسلامية؛ إيجاد نهضة لإحياء دراسة العلوم الإسلامية على نسق جديد، والمساعدة على نشر الثقافة السياسية، فعلّة الشرق الأصيلة فساد أنظمته السياسية، وتأخر تفكيره السياسي.
وميزة هذا الكتاب أنه رجع إلى المصادر القديمة الأصيلة، لاستخراج الأفكار من معادنها، مع المقارنة بين المصادر، والموازنة بين الآراء المختلفة ومناقشتها، ثم محاولة ترتيبها وفق نظام علمي، وإحكام الربط بينها، والتعبير عنها بلغة حديثة.
أضف إلى ذلك، الاطلاع على ما كتب المستشرقون، وبعض المعاصرين من آراء حول هذه النظريات، وقد أصاب بعضهم، وأخطأ بعضهم الآخر خطأ بيّناً.
____________
الهامش:
(1) كان أستاذاً في كلية دار العلوم جامعة القاهرة، ورأس قسم التاريخ بها، وكان من أفضل أساتذة التاريخ الإسلامي في الجامعة المصرية، وقد ترك مجموعة من الكتب، أهمها: «النظريات السياسية الإسلامية»، «الإسلام والخلافة في العصر الحديث»، «عبدالملك بن مروان موحد الدول العربية»، «في التاريخ الإسلامي الحديث»، «الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية».