يشتكي كثير من الآباء والأمهات من عناد أبنائهم، ولعلها تكون الشكوى الأكثر إجماعاً عليها، فهذا الطفل لا يطيع والديه عند ارتداء ملابسه، وذلك يغالب الوالدين عند وقت النوم، وثالث “يعاند” أمه فلا يكتب واجباته، ورابع لا يفعل ما أمره به أبوه فلا يجلب له كأس الماء إلا بعد معاناة، وخامس وسادس وسابع.. فهل قول “لا” عند الأطفال مشكلة تحتاج إلى حلول؟ أم هي ظاهرة طبيعية تحصل لكل طفل؟ أم هي أمر جيد يدل على إيجابيات متنوعة؟
الحقيقة أن عناد الأطفال وقول “لا” لديهم هي ظاهرة طبيعية تحصل لكل طفل ابتداء، ورد فعل الوالدين يجعل منها مشكلة تحتاج إلى حلول أو يجعل منها أمراً جيداً يدل على الكثير من الإيجابيات، فبناء على تعاطي الوالدين مع المسألة تكون النتيجة، فكثير من علماء التربية يقولون: إن أول يوم ينطق به الطفل بكلمة “لا” لا بد أن تكون فرحة عارمة عند الآباء والأمهات، فقد استقل الطفل عنهما وصار قادراً على تحمل مسؤولياته، وهذه المسؤوليات ستكبر يوماً بعد يوم حتى يصير رجلاً قادراً على تحمل المسؤوليات العظام، فلا بد من الوالدين بدل أن يشعروا بفقدان السيطرة والغضب على أبنائهم أن يفرحوا لهذا العناد، وأن يتعاملوا معه التعامل المناسب من توجيه وحوار وتربية على كثير من المهارات من خلال عناده ورفضه الأوامر.
روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً: “عرامة الصبي في صغره زيادة في عقله في كبره” (ضعفه الألباني)، قال المناوي: “عرامة الصبي” أي حدته وشراسته، وكانت العرب تقول: “عرامة الصبي نجابة”، فكانوا يستبشرون بالطفل العنيد الذي لا يطيع في كل ما يؤمر، فالطفل العنيد أقرب للعقلية القيادية من الطفل المطواع، فإن تعامل معه الوالدان التعامل السليم فإنه سيكون قائداً متميزاً عند الكبر، فما التعامل السليم الذي يناسب الطفل عند عناده؟
الحقيقة أن هذا الجواب يحتاج إلى كلام مطول، ولم يدخر علماء التربية جهداً في الكتابة حول هذا الموضوع، وفي هذا المقال ألفت القارئ الكريم إلى بعض الإشارات.
علّم طفلك أن يقول “لا”
إن كلمة “لا” عند الطفل لا بد وأن تكون ممتعة للوالدين ومطمئنة لهم، فالطفل الذي يقول “لا” لأقرب الناس إليه سيقول “لا” للبعيدين عنه، وبالتالي فإنها تدريب متميز لرفض الغريب في الخارج ولقول “لا” لرفاق السوء في المستقبل، فكلمة “لا” تحمي الطفل خارج المنزل، فلن يركب مع سائق غريب، ولن يتعاطى شيئاً لا يعرفه ولا يقتنع به عند المراهقة، ولن ينحرف في الأفكار الضالة عند الكبر.
إنه قد تعود أن يكون مستقلاً بعقله، وتربى أن يحترم حين يرفض أكلة معينة من والديه، وحين يختار اللباس المعين الذي يرتديه، هذه الأمور البسيطة لا شك أنها تدربه على الاستقلالية في عقله وتفكيره، كيف والوالدان قد علّموه أن كلمة التوحيد تبدأ أيضاً بـ”لا”، فهو حين ينطق “لا إله إلا الله”، فإنها تثبت في قلبه أنه لا يقيم اعتباراً عقائدياً إلا ما أقامه الله تعالى من الشرع الحنيف، فيحتمي بعبودية الله من عبودية من سواه، ولا يرضخ إلى لله تعالى.
قول “لا” لا تعني ترك الحزم
حين يقول الطفل “لا”، فإن رد الفعل لا بد أن يكون من جهتين مستقلتين تماماً من الوالدين، فأول رد فعل يكون من القلب والعواطف، وهو فعل وترك، أما الفعل فلا بد أن يكون فرحاً كما ذكرنا سابقاً، وأما الترك فلا بد من ترك الغضب، فإن المرء عند الغضب تبدر منه سلوكيات مرفوضة قد تعود على الطفل بالخسران، وحتى القاضي حين يحكم فإنه مأمور بعدم القضاء عند الغضب.
أما الجهة الأخرى، فهي الفعل الجسدي أو القولي، فلا يعني الفرح وترك الغضب أن يجعل الحبل على الغارب، فلا يوجه الطفل ولا يعلّم، فإن هذا الفعل يخرج جيلاً متمرداً على كل شيء، فإنه على الرغم من ترك الغضب فإن الحزم عند طلب ما لا بد أن يظل موجوداً، فحين يطلب من الطفل أن ينام فيرفض، لا بد من الالتزام مع الطفل بالنوم وأخذه إلى فراشه بحنو وعطف، ولا بد من استخدام جميع الوسائل المشروعة، من حوار معه ومن تكرار الطلب عليه ومن حزم معه ومن قراءة قصة له ومن عقوبة معنوية أيضاً، المهم أن لا يترك الطفل مع كلمة “لا” بمزاجه، فلا إفراط ولا تفريط، والتجارب خير برهان، والحوار أفضل طريقة –وإن كانت ليست دائمة– ففيها تعطي الطفل حرية الكلام، ولكن الكلمة الأخيرة لا بد أن تكون عند الوالدين.
وخير المربين سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، يلخص هذه الفقرة بهذه القصة التي رواها الإمام مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه فقد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: “يا أنيس، أذهبت حيث أمرتك؟”، قال: قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله.
دعونا في هذه القصة الرائعة التي لخصها ابتداء أنس بن مالك بقوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، فقد أخرج الصحابي الصغير شعوره تجاه رسول الله بسبب تعامله صلى الله عليه وسلم معه، فإن أنساً رضي الله عنه قد قال: لا أذهب، فلم يغضب رسول الله منه، ولم يخرج منه رد فعل ابتداء، ثم لما خرج وربما لعب مع الصبيان، جاء إليه ومسكه من قفاه مسكة حنو وهو يضحك، فليس في وجهه بوادر غضب كما يفعل الآباء مع الأبناء الرافضين لطلباتهم، ثم زيادة في الحب ناداه بالتصغير المحبب للأطفال “يا أنيس”، ومع هذه المظاهر المتنوعة من حب وضحك و”تدليع”، ذكّره بالأمر فلم يتنازل ولم يقل: لا تذهب، ولم يتغافل عن الطلب، هذا هو الحزم الممزوج بالحب والفرح أيضاً لا بد أن يكون كذلك تعامل الوالدين، فلا تراخي في الأمر ولا غضب وشدة فيه.
احترم رأي طفلك حين يقول “لا”
إن احترام الطفل وتقديره لا شك أنه يؤثر عليه حين يكبر، فيجد أنه إنسان مستقل له احترامه الخاص، ولا شك أن هذا الاحترام يصنع من الطفل شخصية رائعة، ليس إمعة يقلد الآخرين ولا محطماً ينال منه الأقران، اجعل لطفلك مساحة يعبر فيها عن رأيه، لا تجعله محطماً ليس له قرار، لا في لبس ولا اختيار لون دفتر ولا في أصغر من ذلك ولا أكبر.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس عن يمينه الطفل عبدالله بن عباس، وعن يساره مجموعة من كبار الصحابة، فلما شرب رسول الله من الماء استأذن من ابن عباس أن يعطي كبار الصحابة (ولا حظ أنه استأذن الطفل الصغير لأن له الحق فهو عن اليمين)، فرفض ابن عباس وقال بكل جرأة: لا، تخيلوا معي إخوتي أن المكان عام، والمستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمستأذن منه طفل صغير لا يتجاوز العاشرة، ويقول هذا الطفل أمام الآخرين: لا، كيف يكون رد فعل الأب حين يقول طفل له: لا؟! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد احترم رأي ابن عباس حين قال: والله لا أؤثر بنصيبي منك أحداً، ولنسأل أنفسنا: كم مرة تدخلنا في ألعاب صغارنا لنعطيها أقرباءهم الذين جاؤوا إليهم دون استئذان من الطفل من باب المشاركة؟ إن المشاركة طيبة ولكن استأذن من طفلك أن يشارك زملاءه، علّمه أن ممتلكاته الشخصية حق له لا أحد يستطيع أن يأخذهم منه إلا بإذنه وبموافقته.
طرق عملية للتعامل مع الطفل العنيد
وإني أضع لك بعض الحلول العملية مع الطفل العنيد ليكون نجيباً في كبره بإذن الله، اطلب من طفلك طلباً، فإن لم ينفذه قم وخذه من مكانه ليقوم بتنفيذ الطلب (بحب وحنو ومن دون غضب)، وأكثر من هذه الطلبات في اليوم حتى يتعود الطفل على تلبية الأوامر، كذلك اجعل طفلك يتعلم من أخطائه، فالعواقب خير معلم للطفل، ويجب مراعاة العواقب ألا تكون وخيمة طبعاً، فليس من العقل أن تجعل طفلك يعبر الشارع ليتعلم إن صدمته سيارة.
ومن الحلول العملية أن تجعل لطفلك منبهاً للقيام بما تأمره به، فمثلاً بعد أن تسمع صوت الجرس، فإن الموعد قد حان للذهاب إلى السرير، وكذلك حين تعطي ابنك الاختيار فإنه يتحمل المسؤولية، فبدل أن تقول الأم له: البس ملابسك، فلتقل له: ما رأيك أن تلبس البدلة الحمراء أو الزرقاء؟ فسوف يختار بنفسه ويلبسها، ولا يخفى على الوالدين أيضاً طريقة النجوم التشجيعية التي تكون نهايتها جائزة مجزية للطفل.
والعكس صحيح، لا تهمل العقاب بأن يحرم مثلاً من مشاهدة التلفاز لمدة ساعة أو أن تكلفه مثلاً بأعمال المنزل، وتجنب الصراخ والغضب وكثرة المحاضرات والأوامر، فإن هذه مثل المخدرات تسيطر بها على الوضع قليلاً ثم ترجع مرة أخرى إلى حالها القديم، وربما تنبت نفاقاً أو خداعاً، كذلك اضبط طفلك متلبساً بحسن السلوك، وامدحه عليه، فإن مدح السلوك الحسن كفيل باستمراره، واستمراره كفيل بمحو سلوك سيئ بإذن الله تعالى.
في الختام، تجنب القهر للطفل والتسلط عليه، حاوره ثم حاوره، ففي حواره مجموعة من الفوائد، ففيها أولاً يتربى ويتعلم الحوار وأهميته، وفيها يعرف أنه مستقل ومحترم، وفيها يعرف أنه محبوب من والديه اللذين سمحا له بالحوار، وفيها حرية التعبير التي تمنعه من الخوف وبالتالي من الكذب، قال ابن خلدون رحمه الله: ومن كان مرباه بالعسف والقهر؛ سطا به القهر، وضيّق عن النّفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث؛ وهو التّظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقاً.
__________
(*) رئيس مركز الحياة التربوي.