منذ مقتل سليماني، الجمعة 3 يناير 2020م، في عملية نوعية لوحدات من الجيش الأمريكي والتحليلات لا تتوقف عن صدام وشيك بين إيران والولايات المتحدة، ولمن يتعمق في معرفة طبيعة السياسة الأمريكية والإيرانية في المنطقة منذ عقود، فإنها في الحقيقة قائمة على التفاهم لا الصراع.
فإيران بالأساس تقع في الفراغ الإستراتيجي بين النفوذ الأمريكي ونفوذ الدول الكبرى المنافسة للولايات المتحدة كروسيا والصين، وعلى هذا الأساس، فإن الولايات المتحدة لم ولن تفرط بإيران باعتبار إيران جزءاً من الكتلة الإقليمية التي لها دور في ترتيبات مصالح الولايات المتحدة في جغرافية السياسة لهذه المنطقة.
ولذا، فإن طبيعة التعامل بينهما منذ اعتلاء الخميني للسلطة وتيار ولاية الفقيه في إيران قائمة على التفاهمات السياسية والمصلحية وكانت هي الأساس في الصراع، ويتبقى كل العمليات وأدوات الصراع ما بين الولايات المتحدة وإيران هو من أجل تحسين القدرات التفاوضية، وتحقيق أكبر المكاسب أو تقليل الخسائر من الطرفين، وهدفها أن تكسب إيران محيطاً حيوياً في الجغرافيا السياسية للمنطقة العربية، وتحافظ الولايات المتحدة على نفوذها، وأن تكون إيران تحت السيطرة وتشذيب قدراتها لتحقيق المصالح المشتركة.
خذ كل المسارات التصادمية بين إيران وأمريكا منذ احتلال السفارة الأمريكية بطهران، في 4 نوفمبر 1979، إلى مقتل سليماني (يناير 2020)، كلها عملية ضغط وتفاوضات مستمرة ومحاولات كسب المصالح والتفاهمات على الدور الحيوي لإيران في المنطقة كدولة لديها القدرة على رعاية مصالح أي دولة عظمى بديلاً عن أي قوة إقليمية أخرى في محتوى ديمغرافي سُني يملك تاريخياً العداء ضد المصالح الأمريكية وضد “إسرائيل”.
منذ قيام الثورة الإسلامية إلى اليوم لم نشهد مقتل إسرائيلي واحد داخل “إسرائيل” من إيران، لدى إيران سجل نظيف من قتل الأمريكيين بشكل مباشر، العمليات التي شنت على الأمريكيين من أطراف ذات طبيعة ولائية لإيران هي منضبطة وموجهة لتحقيق هدف التفاوض السياسي والإستراتيجي بين الطرفين.
المكاسب التي حققتها الولايات المتحدة من قتل سليماني تتمثل في قدرتها على تغيير رموز التفاوض الإيراني عندما يحدث خلاف على الإستراتيجية علماً بأن قاسم سليماني كان القائد الأعلى الذي ينسق ويتفاوض مع الأمريكيين في المنطقة ميدانياً، وبذلك أكدت الولايات المتحدة هيبتها كدولة بيدها قرار التغيير والسيطرة، وحققت لترمب نصراً انتخابياً ووضعاً مريحاً للانتخابات القادمة بتقديم أكبر رأسين مصنفين كإرهابيين من الدرجة الأولى في الولايات المتحدة (البغدادي، وسليماني)، ووضع الديمقراطيين في الولايات المتحدة في حالة حرج وفوضى سياسية في كيفية التعامل مع رد الفعل من قرار ترمب.
كما أن الولايات المتحدة أرضت حلفاءها العرب بأنها اتخذت إجراءً لمعاقبة إيران على أعمالها العدائية في الخليج، وجعلت تلك الدول تلتحف بشكل كبير وبخوف أكبر تحت عباءة الحماية الأمريكية.
أما المكاسب الإيرانية، فقد تحققت منذ الثورة الإيرانية، الأولى حيث لم يخرج الشعب الإيراني متضامناً مع المرشد وقيادته الحالية إلا بمشهد التضامن الشعبي لجنازة سليماني؛ إذ وُحِّدت إيران شعبياً وحكومياً وقيادة تجاه التهديد الأمريكي، وبالرغم من آثار الحصار الكارثي والوضع الاقتصادي المنهار، فإن ملايين من الشعب الإيراني تضامنت مع القيادة الإيرانية، وكأنها رسالة اعتذار للقيادة الإيرانية بأننا نقف معكم رغم كل الحصار والظروف.
أما في العراق، فإن قرار إنهاء التعاون العسكري المفتوح للقوات الأجنبية وخصوصاً الأمريكية قد اتخذ، وإن كان في الحقيقة هو إعادة تموضع تكتيكي، وهو نصر مادي ومعنوي لإيران في العراق، بالإضافة إلى إضعاف الحراك السياسي الشبابي الشعبي في العراق ولبنان ضد إيران مما يؤدي إلى إعادة تنظيم إيران لنفسها شعبياً وسياسياً وإستراتيجياً في الجغرافيا العربية.
إن المفاوضات التي تمت في سويسرا برعاية قطرية بين إيران والولايات المتحدة خلال الأيام الماضية ظاهرها الفشل وحقيقتها اقتسام النفوذ والمواقع في الجغرافيا العربية، وتحقيق المصالح للطرفين الأمريكي والإيراني على حساب بقايا النظام السياسي العربي وآمال الحراك العربي الشعبي، لكنها لعبة السياسة في العقد الجديد 2020 مرحلة جديدة بمتغيرات جديدة ستبدأ معها مجموعة من التحولات وننتظر حدوثها على أساس هذا الصراع.
إنها لعبة السياسة الدولية التي تضبط الدولة الإقليمية تحت نفوذ السيطرة الدولة، وهو ما بين سيطرة وانفلات والقدرة على ضبط المسار في اتجاه المصالح.
لقد استفرغت التفاهمات السابقة بين الولايات المتحدة وإيران أغراضها في العقود الأربعة الماضية إلى إنهاء الحالة العربية السُّنية إلى وضع ضعيف ومنهك، يلتحف تحت إيران والولايات المتحدة، مع إنهاء الطاقات الشبابية والجهادية السُّنية المتطرفة منها والمعتدل (بما فيها حركة “حماس”؛ إذ إنها أصبحت تحت الضبط الإيراني والخشية أن تتحول إلى مليشيا إيرانية في المستقبل) التي كانت تواجه “إسرائيل” ومقاومة المستعمر، كما أنها أضعفت الحراك السياسي المعتدل وقهرت مسارات الثورات العربية.
إن إيران ضمنت محيطها الحيوي وموقعها التفاوضي في أي إجراءات وترتيبات سياسية قادمة.
لكن ستظل السياسة الإيرانية والأمريكية في المنطقة تعاني من أكبر مشكلتين إستراتيجيتين:
الأولى: أنهما يديران مصالحهما في ديمغرافية وجغرافية ليست لصالحهما على المدى البعيد.
الثانية: التناقضات في مستوى المشروعين الإيراني والأمريكي الإسرائيلي في المنطقة.
وهو ما يجعل الكتل الحية في هذه المجتمعات أن تستفيد منها لتبني رؤية تغيير إستراتيجية في المستقبل إذا توافرت العوامل المناسبة للتغيير.