- الجديد الذي أتى به التصور الإسلامي ليس وجود إله وإنما وحدانية هذا الإله وتفرده وإحياء المقاومة للوثنية
- امتثال الإنسان للإرادة الإلهية عن اختيار يشكل امتثالًا لمستوى من الإرادة الإلهية أسمى وأجدر بالإجلال
- الخلاص الإسلامي هو على النقيض تماماً من الخلاص في المسيحية التقليدية الإنسان والعالم مفطوران على الخيرية الإيجابية
- كانت الدولة الإسلامية هي الدولة الوحيدة التي لا يسمح فيها لليهودي أن يتنصل مما تفرضه يهوديته عليه من حقوق وواجبات
المقولة الأولى:
المقولة المعرفية الأولى التي يسطرها إسماعيل الفاروقي في مشروعه الإصلاحي، تتعلق بالعلاقة بتجديد النظر إلى التوحيد في علاقتها بالخبرة الدينية والتكوين الاعتقادي للمسلم، والذي يتفرد فيه عن كل من المسيحية واليهودية، فإن تفرد الخبرة الدينية للمسلم لا تأتي من الاعتقاد في إلهٍ، ولكنها تأتي من تفرد ذلك الإله ووحدانيته.
مفهوم الربوبية
مفهوم الرب هو نواة الخبرة الدينية. ويعني الركن الأول من أركان الإسلام (لا إله إلا الله) – ببساطة – مركزية مفهوم الله بالنسبة للمسلم في كل مكان وفي كل فعل، وفي كل فكرة، وفي كل زمان. فوعي المسلم ممتلئ بوجود الله تعالى على الدوام، وهو شاغله الأسمى. والسؤال الذي يترتب على ذلك هو: ما معنى تلك المركزية، واستحواذ معية الله بكل جلالها على المسلم؟
ويكمن وراء رؤية علماء الدين الإسلامي هذه خبرة إسلامية لا تنظر إلى الذات الإلهية على أنها المجرد المطلق والعلة الأولى النهائية لنشأة الخلق، بل على أنها أيضًا لب المعيارية في الكون. وهذا هو البعد من مفهوم الإله الذي تعرض لقدر كبير من البخس في النظرية التي طرحها الفلاسفة التي صورته على أنه إله خلق وانتهى من مهمة الخلق. وهو جوهر رد المسلم على عوارها.
ويعنى تضمين المعيارية في مفهوم الإله أنه سبحانه صاحب الأمر والنهي والمدبر لكل ما في الوجود، وعنايته بالكون وبكل ما يصدر فيه من حركات وسكنات وأفعال حقائق لا يرقى إليها الشك، وأن اتباع الإنسان لمشيئته ولإرادته قدر استطاعته هو أساس قيمة الفعل الإنساني. وتلك الإرادة الإلهية هي التي تحدد للإنسان ما ينبغي أن يكون عليه كل ما في الوجود، حتى في الحالات التي لا يترتب على إنجازها بالفعل واجب تكليفي نابع منها عليه. وبرغم أن تلك الذات الإلهية مطلقة وغيبية فإنها ليست معزولة عما هو قيمي، ولا قابلة للتأكيد عليها على حسابه. ولو قدر للمسلم أن يستخدم هنا مقولة “قيمة المعرفة” لوجدنا لسان حاله يقول إن قيمة الغيبي الماورائي هو أنه يقوم بدوره الفاعل بوصفه مصدر الأمر التكويني أو مولد الدافعية، أو المعيارية.
الألوهية
ويترتب على هذا التصور للذات الإلهية بوصفها المنتهى الأخير المطلق، ومصدر الأساس القيمي لكل ما في الوجود، حتمية أن يكون الإله واحدًا أحدًا فردًا صمدًا ليس كمثله شيء. ومن الواضح أنه في غيبة هذا الشرط، ينفتح الباب مجدداً لإثارة مسألة وجود أول آخر، أو قديم آخر في الوجود، وأولوية أحدهما أو علوه على الآخر. فجوهر المنتهى أن يكون فريدًا ولا نظير له. وهذا القول ذاته ينطبق على العلة الأخيرة من سلسلة العلل المترابطة.
فلباب الآخرية هو انتفاء اعتماد الآخر على غيره. وفي هذا الصدد يأتي البيان القرآني الشافي في قوله تعالى: )لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ( [الأنبياء : 22]. وهذا التفرد التوحيدي هو الذي يؤكد عليه المسلم في شهادته أن “لا إله إلا الله”. أما فكرة الجزم بوجود إله للكون، فإن المسلم يمثل حلقة متأخرة في تكريسها. ومن بين الشواهد القرآنية على هذه الحقيقة ببعديها : ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ( [الأنبياء :25]، وقوله سبحانه )إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ( [فاطر: 23]، فالجديد الذي أتى به التصور الإسلامي ليس وجود إله، وإنما وحدانية هذا الإله وتفرده، وإحياء المقاومة للوثنية، ولكل صور المؤسسات التقليدية الحائدة عن التوحيد الخالص، في عصر سادت فيه عقيدة التثليث والثنوية، وتدنت فيه عقيدة التوحيد في الوعي الديني.
ومن أجل تطهير الوعي الديني من الشرك على نحو لا رجعة فيه، أكد الإسلام على التزام الدقة البالغة في استعمال المفردات اللغوية على نحو يليق بالمدركات المتعلقة بذات إلهية متفردة منقطعة النظير، أو حتى شبه النظير. وبين الله تعالى أنه هو سبحانه )لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ( [الشورى:11]، وأمر نبيه والبشرية معه أن يقولوا: )قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد( [الإخلاص: 1-4]، وهكذا تخلصت مفردات اللغة الدالة على الذات الإلهية من كلمات: الأب، الابن، المخلص، الشفعاء، وما شاكلها، والتأكيد التام على التفرد والتجاوز المطلق المفارق للذات الإلهية عن كل ما عداها بالكون، على نحو لا يستطيع معه أي إنسان أن يدعي علاقة مع الله ينفرد بها دون من عداه من البشر. وقرر الإسلام أن كل البشر والمخلوقات سواسية أمام الخالق سبحانه، وأن لا إنسان ولا مخلوق أقرب بذاته، ولا بعمله، إلا الله تعالى من غيره من نوعه، ولو بمثقال ذرة، من حيث المبدأ. فكل ما في الكون مخلوق يقف على الخط الفارق بين الطبيعي والمتعالي، بحكم المبدأ الأولى المتمثل في كون الله تعالى هو المتفرد بموضع القيمة العليا، وإليه المنتهى.
خلاصة القول إن بؤرة الخبرة الدينية الإسلامية مشغولة بإله واحد أحد فرد صمد ليس كمثله شيء، إرادته لا معقب عليها، وهادية لكل جوانب حياة الإنسان على الأرض. ويعبر القرآن الكريم عن تلك الحقيقة على نحو يأخذ بالألباب، وهو يصور مشهد كشف الله تعالى لملائكته عن إرادته خلق الأرض، وجعل خليفة فيها يلبي مشيئته عن اختيار. وترد الملائكة بأن مثل ذلك الخليفة الحر الإرادة قد يقتل ويفسد في الأرض ويسفك الدماء. وهم –بالمقابل– لا يعصون الله تعالى ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويسبحون الله ويقدسونه.
وحول الرد على تلك المقارنة بين الملائكة المستقيمين على الجادة أبدًا وهذا الخليفة، يجيء بيان الله تعالى الفصل بأنه سبحانه يعلم ما لا تعلمه الملائكة. بقول الله تعالى )وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ( [البقرة : 30].
الإنسان وممارسة الفعل الأخلاقي
من الجلي أن الإنسان –بوصفه مخلوقًا حرًا– قد يقترف السيئات. إلا أن امتثال الإنسان للإرادة الإلهية عن اختيار، وهو مستطيع تماما ألا يمتثل لها، يشكل بحد ذاته امتثالًا لمستوى من الإرادة الإلهية أسمى وأجدر بالإجلال. ومردود حجة الملائكة بأفضليتهم على من قد يخطئ، هو عند التدقيق فيه، بسبب كونهم لا يمتلكون حرية معصية الأمر الإلهي. ويسلط القرآن الضوء على قيمة الحرية الإنسانية هذه بجلاء، ببيان انفراد الإنسان بحمل الأمانة، في مقابل إشفاق السموات والأرض والجبال من حملها. يقول الله تعالى )إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا( [الأحزاب : 72].
من هنا، فإن الإنسان هو المخلوق الوحيد، الذي يتوفر في فعله الشرط الأخلاقي، وهو: الفعل الحر. والقيم الأخلاقية أرقى من القيم الأولية الطبيعية، حيث إنها تستبطن قبولها هي والقيم النفعية الوسائلية مسبقًا وتجاوزها، ومن ثم تتبوأ مكانة أسمى من كليهما. ومن الواضح أن القيمة الأخلاقية للفعل الحر هي الشق الأسمى من الإرادة الإلهية التي لأجلها خلق الله الإنسان، وأنعم عليه بأن جعله خليفة بأمره في الأرض.
لذلك فقد منَّ الله تعالى على الإنسان بتنزيل الوحي الإلهي على الرسل والنبيين، ليتعرف به على المشيئة الإلهية ببيان مباشر وآني لما يريد الله تعالى منه أن يحققه على الأرض. وكلما انحرفت البشرية عن مضمونات الوحي الإلهي جراء التجويف أو النسيان أو الإفساد فيه أنزل الله تعالى رسله من جديد لاستعادة الوعي الإنساني الصحيح بالإرادة الإلهية، على نحو يراعي قدرات الإنسان النسبية وفق الزمان والمكان، وما يطرأ عليهما من تحولات، تحقيقا لغاية واحدة، هي أن يظل في متناول الإنسان على الدوام القدر الكافي من المعرفة الصحيحة بالأوامر الإلهية التكليفية الأخلاقية.
لقد أنعم الله تعالى على الإنسان بالحواس والعقل والقدرة على الفهم والحدس، وبكل مقومات فطرة التعرف بنفسه على الإرادة الإلهية دون معونة من أحد؛ لأن تلك الإرادة الإلهية فطرت عليها العلاقات الطبيعية، والعلاقات الإنسانية على حد سواء. وفي حين يركز الإنسان على العلم الطبيعي في استكشاف سنن النظام الطبيعي، فإنه يتوجه في ضبط العلاقات الإنسانية إلى تفعيل الحس الأخلاقي، والالتزام بالنظام الأخلاقي. وعلى صعيد الشق الأول يدرك الإنسان أن اكتشافاته واستنتاجاته ليست يقينية، بل هي موضع تجريب متواصل يصوب به الخطأ، ويعمق بصيرته بمزيد من التجريب والتحليل والتصحيح.
اليقين وإمكانية معرفة الحقيقة
على ضوء هذا التصور تظل مواصلة البحث ممكنة، ولا ييأس العقل من إعادة النظر في اكتشافاته السابقة، ولا يمل من تصحيحها، دون أن يقع في براثن النزعة الشكوكية، ويعي الإنسان المسلم أن معرفة إرادة الله تعالى بالعقل ممكنة، ومعرفة إرادته سبحانه وتعالى بالوحي يقينية. وبمجرد إدراك تلك الإرادة تصير مقبولية مضمونها واحدة من حقائق الوعي الإنساني. فجوهر المعرفة بالقيمة هو إدراكها، واعتمال جاذبيتها المحركة في الوجدان، وقوة العزيمة النابعة منها في النفس. ومقتضى معرفة القيمة هو انتهاء خلود الإنسان إلى الأرض، وفقدانه توازنه الوجودي لصالح التحرك باتجاهها، بما يعنيه ذلك من مكابدة التغيير، والشروع في الوعي بما تستوجبه كينونته بوصفه خليفة بأمر الله تعالى في الأرض، والقيام بما يجب عليه القيام به ترتيبًا على ذلك الوعي.
الفلاح الإسلامي في مقابل الخلاص المسيحي
إن الخلاص الإسلامي هو على النقيض تمامًا من الخلاص في المسيحية التقليدية. بل إنه لا نظير لمفهوم (المخلص) في المفردات الدينية الإسلامية. فليس هناك مخلص، وليس هناك ما يحتاج الإنسان إلى تخليصه منه. فالإنسان والعالم مفطوران على الخيرية الإيجابية، أو على الحياد، وهما ليسا شريرين. فالله تعالى يقول في وصف ما خلق )الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ( [السجدة : 7]، ويقول سبحانه )الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى( [الأعلى 2 ، 3]. فكل مولود يولد على الفطرة الصحيحة التي فطر الله الناس عليها، غير محمل بأية خطيئة أصلية، كبيرة كانت أم يسيرة.
هذا عن تأثير الخبرة الدينية الإسلامية على لاهوت الخلاص. أما عن تأثير تلك الخبرة على تاريخ العالم فهو الآخر بالغ الأهمية. فبنور تلك الخبرة اندفع المسلم بنفسه على مسرح صنع التاريخ، رغبة في تجسيد النموذج الإلهي، الذي بلغه إياه رسول الله بالوحي المنزل عليه. ولم تعد في حياته قضية أحب إلى نفسه وأغلى عليها من تلك القضية، إلى حد صار معه مستعدا للتضحية بنفسه في سبيلها. وبرؤية صحيحة لمهمته في هذه الأرض، نظر المسلم إلى الكرة الأرضية بأسرها على أنها ساحة فعله، ونظر إلى أمته على أنها تشمل البشرية بأسرها عدا حفنة يسيرة من المتمردين، لا يتمثلون إلى الكلمة السواء معها، إلا بقوة السلاح.
السلام الإسلامي
لم ينظر المسلم إلى السلام الذي يبنيه بسواعده، على أنه سلام مجتمع أحادي البنية يسود فيه الإسلام وحده. فلقد احتضن ذلك المجتمع أهل الكتابة من نصارى ويهود، وصائبين، بنص القرآن الكريم. وضم الزرادشتيين بالسنة النبوية. وانفتح أمام البوذيين والهندوس باستقراء الفقهاء المسلمين لدلالات السنة النبوية. وظل النموذج على ما هو عليه، متمثلًا بعالم كلمة الله فيه هي العليا، والكل يسلم بسموها، إلا أن ذلك التسليم، لا تكون له أية قيمة ما لم يكن مؤسسا على قرار حر ومدروس من جانب كل فرد. وهذا هو السر في أن الدخول في السلام الإسلامي، لا يعني أبدًا اعتناق الإسلام؛ بل يعني الدخول في علاقة سلمية تغدو الأفكار في ظلها حرة، والبشر أحرارًا في الإقناع والاقتناع.
وواقع الأمر أن الدولة الإسلامية وضعت كل مواردها تحت تصرف المجتمع المسيحي، أو المجتمع اليهودي، أو المجتمع الهندوسي أو البوذي، كلما سعت تلك المجتمعات إلى الاستعانة بسلطتها في إعادة أي فرد من أتباعها يتحدى موجبات الالتزام بها، مرجعيتها. وكانت الدولة الإسلامية هي الدولة الوحيدة غير اليهودية، التي لا يسمح فيها لليهودي أن يتنصل مما تفرضه يهوديته عليه من حقوق وواجبات، أو أن يتمرد على مرجعيته اليهودية. وتنطبق ذات القاعدة على المسيحي والبوذي والهندوسي. وفي المقابل، لم يكن ثمة مناص أمام الفرد اليهودي الأوربي، حتى تحريره في القرن التاسع عشر، أن يتحدى تعليمات كنيسه، إلا أن يحرم كنسيًا، ويعامل كشخص مخالف للشريعة اليهودية، تنتظره خارج أسوار الجيتو، الدولة المسيحية، أو أي شخص غير يهودي، لتقصيه أو تقتله. أما الدولة الإسلامية، فكانت تعيد اليهودي الشرقي الذي يتحدى مرجعيته الدينية، إلى جادته، باسم حاخاماته. وهذا أبلغ دليل على الفهم الإسلامي للأمانة التي حملها الله للإنسان على أنها فعل أخلاقي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ أصول التربية المساعد – جامعة دمياط – مصر.