تم ميلاد المصارف الإسلامية مع ميلاد أول بنك إسلامي قطاع خاص في العام 1975م؛ وهو بنك دبي الإسلامي، ليشكل ذلك علامة فارقة في تاريخ المسلمين الاقتصادي المعاصر، وإثبات بصورة عملية خطأ شعار «لا اقتصاد بغير بنوك ولا بنوك بغير فوائد» الذي رفعه من تبنى استحالة وجود مصارف إسلامية.
حرص الآباء الأوائل المنظرون للبنوك الإسلامية على أن تكون بنوكاً تنموية اقتصادياً واجتماعياً؛ لذا كان جل تركيزهم على التمويل بالمشاركات، وتحت ضغط مخاطر المشاركات وفلسفة وعقلية جل القائمين على المصارف الإسلامية الذين أتوا إليها من بنوك تقليدية تم التوجه من المشاركات إلى المداينات من خلال استحواذ المرابحة للآمر بالشراء على غالبية صيغ التمويل بالمصارف الإسلامية، وقد كان التبرير لذلك بأن هذه فترة مؤقتة من خلالها يتم انتقاء العملاء المميزين في المرابحة للتعامل معهم بالمشاركة، ولكن حدث ما لم يكن متوقعاً؛ فقد اتجه العديد من المصارف الإسلامية إلى ما هو أشد وأنكى من خلال ترسيخ التعامل بالتورق المصرفي المنظم أو ما يطلق عليه تجميلاً «المرابحة السلعية»، وبعد أن كان هذا التعامل يتم حياء بات تبجحاً.
والتورق لغة مصدر تورق، والورق بكسر الراء: الدراهم المضروبة، وقيل: الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة، والتورق في الاصطلاح الشرعي أن يشتري سلعة نسيئة، ثم يبيعها نقداً -لغير البائع- بأقل مما اشتراها به؛ ليحصل بذلك على النقد، ولم ترد التسمية بهذا المصطلح إلا عند فقهاء الحنابلة، أما غيرهم فقد تكلموا عنها في مسائل بيع العينة.
بين التورق الفردي والمنظم
والتورق بهذه الصورة يسمى بالتورق الفردي، وهو يمثل شراء سلعة بثمن آجل مساومة أو مرابحة ثم بيعها إلى غير من اشتريت إليه للحصول على النقد بثمن حال، وهو بخلاف العينة المحرمة من جمهور العلماء والمجامع الفقهية التي فيها يتم شراء سلعة بثمن آجل وبيعها إلى من اشتريت إليه بثمن حال أقل.
وجمهور العلماء على إباحة التورق الفردي سواء من سماه تورقاً وهم الحنابلة، أم من لم يسمه بهذا الاسم وهم من عدا الحنابلة؛ لعموم قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) (البقرة: 275)، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم، لعامله على خيبر: «بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً» (رواه البخاري)، ولأنه لم يظهر فيه قصد الربا ولا صورته، وكرهه عمر بن عبدالعزيز، ومحمد بن الحسن الشيباني، وقال ابن الهمام: هو خلاف الأولى، واختار تحريمه ابن تيمية، وابن القيم؛ لأنه بيع المضطر، والمذهب عند الحنابلة إباحته.
وهذا بخلاف التورق المصرفي المنظم الذي يشتري فيه المستورق (العميل) سلعة من الأسواق المحلية أو الدولية ونحوها بثمن مؤجل، ويتولى البائع (البنك المموّل) ترتيب بيعها، إما بنفسه أو بتوكيل غيره أو بتواطؤ مع المستورق، بثمن حال أقل غالباً، وكذلك لو كان التورق عكسياً في حالة كون المستورق هو البنك والممول هو العميل.
وقد حرمت المجامع الفقهية هذا التورق المنظم باعتباره رباً، فالعينة واضحة جلية في المعاملة، والغرض من التورق المنظم واضح منذ البداية بتواطؤ أطراف المعاملة على بيع نقد بنقد بزيادة مع توسيط السلعة تحايلاً، وقد جاء بقرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي بذات الخصوص «لا يجوز التورقان (المنظم والعكسي)؛ وذلك لأن فيهما تواطؤاً بين الممول والمستورق، صراحة أو ضمناً أو عرفاً، تحايلاً لتحصيل النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة وهو ربا»، كما قرر المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي عدم جواز التورق المصرفي المنظم للأمور الآتية:
1- التزام البائع في عقد التورق بالوكالة في بيع السلعة لمشتر آخر أو ترتيب من يشترطها يجعلها شبيهة بالعينة الممنوعة شرعاً، سواء أكان الالتزام مشروطاً صراحة أم بحكم العرف والعادة المتبعة.
2- أن هذه المعاملة تؤدي في كثير من الحالات إلى الإخلال بشروط القبض الشرعي اللازم لصحة المعاملة.
3- أن واقع هذه المعاملة يقوم على منح تمويل نقدي بزيادة لما سمي بالمستورق فيها من المصرف في معاملات البيع والشراء التي تجري منه التي هي صورية في معظم أحوالها، هدف البنك من إجرائها أن تعود عليه بزيادة على ما قدم من تمويل.
تحايلات مردودة
ورغم الحجج الواضحة في حرمة التورق المصرفي المنظم، ما زلنا نجد من يتبجح بأن هذا التورق المصرفي المنظم بيع والأصل فيه الإباحة وأنه فتح مبين، وأنه رئة البنوك الإسلامية الذي تتنفس به، وهو في حقيقته فتح لكبيرة أعلن الله عليها الحرب، وتلويث ليس لرئة البنوك الإسلامية فحسب بل لروحها وجسدها وسمعتها، وهو بيع باطل واضح فيه ما يؤول إليه العقد في نهايته من بيع نقد بنقد بزيادة مع جرم المقصد والتحايل المذموم والأمور بمقاصدها.
بل إن بعضهم استدل بحديث تمر خيبر مبررين ذلك بأن «الشيء قد يكون محرماً لعدم اتفاق صورته مع صيغته الشرعية، فإذا استطعنا أن نخرجه إلى صيغة شرعية مقبولة أصبح مباحاً، والتورق صيغة بيع صحيح مشتمل على شروطه وأركانه ومنتفية عنه أسباب الفساد والبطلان، وغايته الحصول على السيولة النقدية ليتجنب الناس الوقوع في الربا، والحاجة تدعو إلى مثل هذه المعاملة، فليس كل من يحتاج إلى مال يجد من يقرضه».
وهذا انحراف في الفهم وبُعد عن البصيرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وسط النقد في بيع التمر وما في حكمه حتى لا يقع الناس في الربا وليخرجوا من الحرام إلى الحلال، وهؤلاء يوسطون السلعة ليقع الناس في الربا وينتقلون من الحلال للحرام، فشتان بين توسيط النقد كوسيط للتبادل ومقياس للقيم ومعيار للمدفوعات الآجلة وبين بيع النقد بزيادة من خلال توسيط سلع بالتحايل المذموم، كما أن التداول على تلك السلع لا يحقق أي قيمة مضافة، اللهم سوى ارتفاع أسعار السلع لا سيما أن القبض فيها وهمي والتعامل عليها مستمر.
ثم إن القول بأن التورق المصرفي المنظم بغرض توفير السيولة النقدية لتجنب الوقوع في الربا هو كلام يهدم نفسه، فالتورق المصرفي المنظم هو عين الربا، كما أن الغاية لا تبرر الوسيلة، فالوسيلة يجب أن تكون حلالاً كالغاية، ومهمة البنوك الإسلامية ليست توفير سيولة نقدية للناس لاستخدامهم الشخصي وفتح الشهوات الاستهلاكية دون معرفة الاستخدام الحقيقي للتمويل، كما أن القول بأن الحاجة تدعو إلى مثل هذه المعاملة قول متهافت، فهذه الحاجة لا صلة لها بالحاجة المعتبرة شرعاً، وليست الحاجة ثوباً فضفاضاً تحركها الأهواء وأصلاً لا استثناء.
كما استدل البعض لتبرير التورق المصرفي المنظم بأن المصارف الإسلامية يجب عليها عدم تفويت أي فرصة للزيادة في ربحها، وتوفير ظروف التمويل لعملائها من خلال التورق المصرفي المنظم في ظل المنافسة المحتدمة مع المصارف الربوية، التي تقدم لعملائها منتجات مصرفية متنوعة تفوق بكثير منتجات المصارف الإسلامية، كما أن التورق المنظم صيغة مهمة تستطيع الحكومات بواسطتها تمويل العجز التجاري والحصول على السيولة اللازمة.
وهذا تبرير متناقض، فمنافسة البنوك الإسلامية للبنوك التقليدية لا تكون إلا بالطيب الحلال، كما أن المصارف التقليدية لا تحمل من صيغ التمويل سوى ثلاث صيغ جميعها محرم؛ القرض بفائدة، والحساب الجاري المدين، وخصم الأوراق التجارية، أما التمويل المصرفي الإسلامي فيصل إلى أكثر من عشرين صيغة تمويلية ما بين المداينات والمشاركات، ولكن أبت تلك البنوك إلا أن تلبس ثوباً واحداً هو المرابحة والتفنن في تجميله بالتورق المصرفي المنظم.
كما أن القول بأن التورق المنظم يوفر السيولة للحكومات هو قول استسلامي ترقيعي، فالحكومات أولى من الناس بتطبيق الحلال والبعد عن الحرام، والله تعالى يزع بالسلطان ما لم يزع بالقرآن.
استغلال «كورونا»!
وقد عكست تطبيقات التورق المصرفي المنظم رغم حرمته إهمال الضوابط التي وضعها من أجاز ذلك المنتج المذموم، حتى وصل البعض باسم أزمة «كورونا» إلى استخدام التورق المصرفي المنظم لقلب الدين وسداد متأخرات عملاء التمويل بصورة لا تختلف مطلقاً في المآل عن فوائد التأخير في البنوك التقليدية.
إن التورق المصرفي المنظم ما هو إلا بيع العينة المحرم شرعاً، والذين ظلموا الإمامين الشافعي، وابن حزم وافتروا عليهما بالقول بأنهما أباحا بيع العينة مطلقاً جانبهم الصواب؛ فالشافعي، وابن حزم وإن كانا ربطا صحة المعاملة بسلامة إجراءاتها من الناحية الشكلية (الإرادة الظاهرة) دون الأخذ في الاعتبار نية الطرفين المتعاقدين أو أحدهما (الإرادة الباطنة)، فإنهما ربطا ذلك إذا لم يتم التعبير أو الإعلان عن هذه الإرادة، وبذلك لم يتركوا الحكم مستباحاً، بل ربطوه بحد واضح المعالم؛ وهو وجود ما يدل على النية الفاسدة من عدمه، فإذا كانت هناك قرائن أو دلائل على أن نية المتبايعين في العينة هي التحايل والوقوع في الربا، فإن الشافعي، وابن حزم يتفقان مع غيرهما من العلماء في تحريم العينة.
إن الذين يروجون لمنتجات تمويلية باسم الهندسة المالية الإسلامية وهيكلتها من خلال التورق المصرفي المنظم إنما يرسخون للهندسة المالية الشيطانية بفقه ترقيعي معوج، وأولى بهم الالتزام بما شرع الله دون تحايل على الحرام؛ فالتحايل على الحرام حرام، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من التساهل في الاقتراب من المحرمات في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب» (رواه مسلم)، فكيف بمن يعرفون المحرمات ويغمسون الناس فيها باسم توفير السيولة؟!
وقد حذر القرآن الكريم من تتبع الخطوات التي تستدرج العبد نحو الهاوية، فقال تعالى: (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (البقرة: 168)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) (النور: 21).
إن الهندسة المالية الإسلامية تنظر بعين الاعتبار إلى المقاصد والأمور الكلية في الاقتصاد الإسلامي، من خلال النظر في بيان الحكم الشرعي إلى الجزئيات والكليات وإلى الفروع والمقاصد، ولا مكان فيها للحيل الشيطانية التي تقوم على المخادعة والتلبيس والتدليس وتتخذ كوسيلة للوصول إلى محرم أو تمويه الباطل أو إدخال الشبه فيه، وتهدم بذلك الأصول الشرعية وتناقض المصالح الشرعية، فالحيل تناقض سد الذريعة، وهي جرأة على استحلال محارم الله.
ومن يتأمل أحاديث اللعن يجد عامتها لمن استحل محارم الله، أو أسقط فرائضه بالحيل، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» (رواه ابن ماجة)، وقال: «لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ؛ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا، وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» (رواه البيهقي)، وقال: «لعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَهُ، وَكَاتِبَهُ» (رواه أحمد)، وقرن بين آكل الربا وموكله، والمحلل والمحلل له، وذلك للقدر المشترك بين هؤلاء الأصناف وهو التدليس والتلبيس؛ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: 63).