في عام 2016م، أصدر المستشرق الفرنسي «فرانسوا بورغا» كتابه «فهم الإسلام السياسي»، وفيه حاول أن يوجز رحلاته في الديار الإسلامية، حيث اكتشف هناك زيف الصورة التي يعتنقها الفرنسيون، واكتشف أيضاً أن هذه الصورة ليست لمجرد ضعف الثقافة أو لأن الفرنسيين لا يعرفون إلا الغرب، بل لأن ثمة شبكة من المؤسسات السياسية والإعلامية والأكاديمية تعمل على ترويجها وفرضها وتثبيتها كصورة وحيدة، ونفس هذه الشبكة هي التي تُرَوِّج تحليلاتها وتفسيراتها وتقدم «الفهم الوحيد الصحيح» لما يحدث في بلاد المسلمين، ليس هذا فحسب، بل إنها تسعى سعيها المحموم لمطاردة أي صوت آخر يحاول أن يقدم صورة أخرى أو تحليلاً آخر لما يجري هناك.
ومن ثَمَّ كان على المتحدث في شأن الشرق أن يلتزم بهذه الرواية الرائجة، فإذا تجرأ وقدَّم رواية أخرى تنصف المسلمين أو تحاول فهمهم، كان عليه أن يدفع الثمن، ومن الجدير بالذكر أن تهمة التعاطف مع الإسلام تساوي «باختصار: الخيانة» (ص20، 22، 23).
خرج الكتاب مزيجاً بين السيرة الذاتية وأدب الرحلات والفكر والتحليل السياسي! ومع أن فهمه لعموم المشاعر الإسلامية كان جيداً، إلا أن فهمه للحركات الإسلامية يعاني قدراً غير قليل من التشوش والضبابية.
يبدأ «بورغا» كتابه باقتباس من رسالة الروائي الفرنسي الشهير «إميل زولا»، يقول: «إنهم يُهَيِّجون فرنسا، يختبئون وراء عاطفتها المباحة، يكممون الأفواه بتكدير القلوب وإفساد العقول، لا أعرف جريمة مدنية أعظم من ذلك»، ثم يشرع في بيان أن التوتر مع العالم الإسلامي يعود إلى المشكلات السياسية، لا الدينية، فالمسلمون يريدون الانعتاق من الاستعمار وقيوده التي لا تزال مستمرة، وهذا ما لا يريد الغربي أن يفهمه لأنه منكفئ على نفسه ولا يرى في العالم غير فرنسا أو الغرب فحسب، وبدلاً من أن ينشط الغربي لفهم هذه الظاهرة الإسلامية، فإنه يستعمل سوء الظن ليفسر به حركة هؤلاء «الأشرار» الآخرين.
يحاول «بورغا» التمييز بين المسلمين والإسلاميين، فالمسلمون كأي أمة يريدون أن يعيشوا كما تمليه عليهم ثقافتهم وشريعتهم، فميلهم إلى الهوية الإسلامية هو فعل طبيعي، ليس فيه بالضرورة رفض مطلق للغرب ولا رغبة في إفناء الشعوب الغربية، ولكنها حركة استقلال وتحرر وانخلاع من الثقافة الاستعمارية التي لا تزال مفروضة عليهم بفعل الهيمنة الغربية، وهذه الحركة موجهة إلى العلمانيين والقوميين أيضاً باعتبارهم ممثلي الثقافة الغربية ونتاجاً لحقبة الاستعمار، هذه الرغبة في الاستقلال والتحرر لا بد لها من الانتماء إلى الإسلام وحضارته وتقاليده وقيمه، لأن أصحابها مسلمون، وهذه الرغبة هي التي تسود العالم الإسلامي، ولا يمكن إدانتها.
وأما الإسلاميون فهم أولئك الذين ترجموا هذه الرغبة إلى عمل وحركة، ومن الطبيعي أنهم سيعملون بقوة تحت الشعارات الإسلامية، وسيتبنون خطاباً إسلامياً، ولكن التنوع الكبير بين هؤلاء الإسلاميين (بدءاً من الغنوشي وحتى البغدادي) في طرق العمل وطبيعة الأفكار، يجب أن يلفت النظر إلى أن الخطاب الإسلامي إنما هو مظلة واسعة للغاية، فمن الخطأ حصر الإسلام في شكل نمطي واحد كما يحدث في الغرب، ولفهم هذا التنوع يجب أن ننظر في الظروف والدوافع التي هيمنت على كل حركة حتى صار كل من الغنوشي، والبغدادي ينتسبان إلى الإسلام ويستعملان الخطاب الإسلامي.
يستخلص «بورغا» من خلال دراسته ورحلاته إلى قناعة مفادها أن رد فعل حركة إسلامية ما «غالباً ما يكون ذا طبيعة انفعالية؛ أي أن باعثه المؤسس يتمثل في عنف ابتدائي» (ص18)، وبعبارة أخرى: أن ظهور التطرف والإرهاب لا يتحمل الإسلاميون وحدهم مسؤوليته، لا سيما إن كانت البداية عملاً عنيفاً جاء من الطرف الغربي كالاحتلال العسكري أو من ممثلي الغرب المحليين كالقمع والاضطهاد! ومن هنا يختلف «بورغا» مع معاصره الفرنسي «جيل كيبيل» (وهو واحد من أشهر الباحثين في الحركات الإسلامية) إلى درجة التناقض، إذ يرى «كيبيل» أن ما في الإسلام من قيم وأفكار إنما هي منتجة للتطرف بطبيعتها، وأنه حيثما وُجِد الإسلام فسيوجد التطرف!
يختصر «بورغا» أفكاره فيقول: «إذا ما اعتقدنا أنه ينبغي إصلاح الفكر الديني الراديكالي بغية إحلال السلام، نكون قد سلكنا طريقاً خطأ، فالسبيل إلى إحلال السلام في المنطقة لا يمر عبر إصلاح الخطاب الديني، وإنما نبدأ بإحلال السلام في المنطقة لكي نصل إلى إصلاح الخطاب الديني»، ويضيف: «لا يصدر العنف «الإسلامي» من الإسلام، إنه نتاج التاريخ الحديث للمسلمين، تاريخ كتبته أياد عدة، منها أيادي الجارة الغربية الكبيرة (أوروبا)» (ص19، 25).
طفق «بورغا» عبر هذا المدخل يسرد كيف انفتح على العالم الإسلامي، والبلاد التي زارها، وروى كثيراً من المواقف التي تعرَّض لها مما له دخل بهذه الفكرة أو مما يُروى للطرافة والغرابة أحياناً:
كانت رحلته الأولى إلى «إسرائيل»، وذلك قبل أن يبدأ الاهتمام بأحوال الشرق، وكانت معرفته المستقاة من المدرسة ومن الصحافة الفرنسية تقول: إن «الإسرائيليين» كانوا هم الذين نجحوا في زرع الورود وسط الصحراء، التي كانت مجرد أرض لم يفعل العرب إلا التجول فوق كثبانها على ظهور جِمالهم طوال هذه القرون، هناك استفاق على كلمة شاب فلسطيني يقول له: «لقد أخذ اليهود بلدي مني»، لم يكن يعرف شيئاً عما جرى ولا لديه أدنى علم بالتاريخ الذي يحكي كيف صارت «إسرائيل»! وبهذا يمكن أن نتصور كيف يفهم الفرنسي الجاهل صورة الوضع إذا سمع بخبر هجوم على الذين نجحوا ولأول مرة في زراعة الورود في قلب الصحراء!
وفي رحلته وعمله بالجزائر، اكتشف ولأول مرة أن الاستعمار الفرنسي وجرائمه حاضرة في الجزائر حضوراً طاغياً ومؤثراً في كل شيء، ويكاد يكون أثر هذا حاضراً في كل رد فعل يقوم به الجزائريون، بينما هذا التاريخ لا يدرّس في فرنسا ولا يعرف الفرنسيون شيئاً عما فعله أسلافهم في الجزائر، ومن ثَمَّ فإن كل رد فعل غاضب في الجزائر يفسرونه على أنه ناتج عن الطبيعة المتطرفة الأصيلة المغروسة في نفوس المسلمين، بل إن أولئك المسلمين إنما هم ناكروا جميل، وذلك أنهم يتعاملون بعداء مع فرنسا مع أنها هي التي أدخلتهم العصر الحديث وبنت لهم المدارس وشقت لهم الطرق وألحقتهم بالثقافة العصرية!
وحين وقع الانقلاب العسكري في الجزائر على الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وبدأت حرب الجيش على الإسلاميين، بكل ما شملته من جرائم ومذابح، فإن فرنسا قدَّمت الدعم الكامل –هي وسائر الغرب- للجيش في معركته، ولم تأبه أن تسأل عن الديمقراطية المذبوحة! يرى «بورغا» أن هذه واحدة من اللحظات النموذجية التي يمكن من خلالها تفسير وفهم الحركات الجهادية، ولكن من سيسمح بذلك، إن «بورغا» نفسه كان يعاني غاية المعاناة لأنه يحاول تقديم الصورة الحقيقية في مناخ تعمل فيه الشبكة السلطوية كلها وبكل طاقتها في ترويج وترسيخ روايتها الوحيدة عن «الإرهاب الإسلامي».
هذه الشبكة جذبت إليها حتى الأحزاب اليسارية في فرنسا، التي من المفترض أنها تدافع عن العدالة والطبقات الفقيرة والظروف غير الطبيعية التي تدفع إلى العنف، لقد كانت حاجة هذه الأحزاب إلى الأصوات التي تذهب إلى أحزاب اليمين أهم عندها من الإخلاص لمبادئها!
يذكرنا حديث «بورغا» عن الشبكة المهيمنة على إنتاج المعرفة في الغرب بما قاله «إدوارد سعيد»، وتذكرنا معاناته ببعض ما لقيه مستشرقون حاولوا الإنصاف منذ «رايسكه» وحتى الآن، إننا لن نفهم الاستشراق حقاً إذا لم نفهم أنه الذراع الأكاديمية لسياسات الهيمنة، وليس مسموحاً ولا هو ممكن أن يتحول الاستشراق ليكون دراسة موضوعية تنتهي نتائجها إلى اتهام السياسة الغربية، وتحسين صورة العدو «الإسلامي».
ليست المشكلة في جهلٍ سببه ضعف التواصل أو ندرة المراجع أو قلة الباحثين، المشكلة في شبكة الطغيان التي تصنع الصورة اللازمة لاستمرار الحرب والنهب والعداء، وعموم الناس في الغرب هم ضحايا بوجه من الوجوه، إلا أن منهم من إذا عرف الحقيقة فضَّل ما هو فيه من الترف والمكاسب –التي هي من دماء الشعوب المستضعفة- على أن ينقلب مدافعاً عن الحق ومتحملاً ثمنه، وهو بهذا ينحاز إلى شبكة الطغيان طواعية ليكون جندياً في صفوفها!
من المؤسف أننا لا نملك الكثير لإنقاذهم من جهلهم، فهذا الجندي الجاهل الذي يهاجمنا بسلاحه في ديارنا ليس له إلا الصدّ والردّ والدفع بكل ما يندفع به! ومثلُ هذا الجندي الجاهل هذا الفرنسي الغافل في بلاده، لن يستيقظ إلا إذا مُسَّت بعض رفاهيته بمقاطعة المسلمين لمنتجاتهم، وبما يستطيعون من وسائل المقاومة الأخرى.
وهنا نفهم، لماذا كانت الفتوحات الإسلامية هي أوسع عملية في التاريخ لإنقاذ البشر من هيمنة الطغاة!