إن الإيمان بالله عز وجل هو أهم أصول الإيمان، وأعظمها شأناً، وأعلاها قدراً، بل هو أصل أصول الإيمان، وأساس بنائه، وقوام أمره، وبقية الأصول متفرعة منه، راجعة إليه، مبنية عليه، والإيمان بالله تعالى هو الإيمان بوحدانيته سبحانه في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، فهذه أصول ثلاثة يقوم عليها الإيمان بالله، بل إن الدين الإسلامي الحنيف إنما سمي توحيدا لأن مبناه على أن الله واحد في ملكه وأفعاله لا شريك له، وواحد في ذاته وأسمائه وصفاته لا نظير له، وواحد في ألوهيته وعبادته لا ندَّ له.
وبهذا نعلم أن توحيد الله تعالى ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: توحيد الربوبية، وهو الإقرار بأنَّ الله تعالى رب كلّ شيء ومليكُه وخالقُه ورازقُه، وأَنه المحيي المميتُ النافعُ الضار، المتفرِّدُ بالإجابة عند الاضطرار، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، وإليه يُرجع الأمرُ كله، لا شريك له في ذلك.
القسم الثاني: توحيد الألوهية، وهو إفراد الله تعالى بالذلِّ والخضوع والمحبَّة والخشوع والركوع والسجود والذبح والنذر، وسائر أنواع العبادة لا شريك له.
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات، وهو إفراد الله تعالى بما سمى ووصف نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتنزيهه عن النقائص والعيوب ومماثلة الخلق فيما هو من خصائصه والإقرار بأنَّ الله بكلِّ شيء عليم، وعلى كلِّ شيء قدير، وأنَّه الحيُّ القيُّوم الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم، له المشيئة النافذة والحكمة البالغة، وأنَّه سميع بصير، رؤوف رحيم، على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وأنَّه المَلِك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبَّار المتكبِّر، سبحانه وتعالى عمَّا يشركون، إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى، والصفات العلى.
ولكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة دلائلُ كثيرة من الكتاب والسُّنة، وهذه الأقسام الثلاثة للتوحيد قد أخذها أهل العلم بالاستقراء والتتبع لنصوص الكتاب والسنة، وهو استقراء تامٌّ لنصوص الشرع، أفاد هذه الحقيقة الشرعية، وهي أنّ التوحيد المطلوب من العباد هو الإيمان بوحدانية الله في ربوبيته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته، فمَن لم يأت بهذا جميعه فليس بمؤمن، ونريد أن نقف مع كل قسم بشيء من التفصيل على النحو التالي:
القسم الأول: توحيد الربوبية
– الربوبية لغة: مصدر من الفعل ربب، ومنه الربُّ، فالربوبية صفة الله، وهي مأخوذة من اسم الرب، والرب في كلام العرب يطلق على معان: منها المالك، والسيد المطاع، والمُصْلِح.
– توحيد الربوبية في الاصطلاح: هو إفراد الله بأفعاله، ومنها الخلق والرزق والسيادة والإنعام والملك، والعطاء والمنع، والنفع والضر، والإحياء والإماتة، والتدبير المحكم، والقضاء والقدر، وغير ذلك من أفعاله التي لا شريك له فيها، ولهذا فإن الواجب على العبد أن يؤمن بذلك كله.
والأدلة على توحيد كثيرة منها: قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ – هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (لقمان: 10 – 11)، وقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (الطور: 35)، وما رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه وفيه: “السيد الله تبارك وتعالى..”، وقد ثبت في سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما: “واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف”(1).
أما دلالة العقل على توحيد الربوبية: فقد دل العقل على وجود الله تعالى وانفراده بالربوبية وكمال قدرته على الخلق وسيطرته عليهم، وذلك عن طريق النظر والتفكر في آيات الله الدالة عليه، وللنظر في آيات الله والاستدلال بها على ربوبيته طرق كثيرة بحسب تنوع الآيات وأشهرها طريقان:
الطريق الأول: النظر في آيات الله في خلق النفس البشرية وهو ما يعرف بـ”دلالة الأنفس”، فالنفس آية من آيات الله العظيمة الدالة على تفرد الله وحده بالربوبية لا شريك له، كما قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 21)، وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} (الشمس: 7)، ولهذا لو أن الإنسان أمعن النظر في نفسه وما فيها من عجائب صنع الله لأرشده ذلك إلى أن له رباً خالقاً حكيماً خبيراً؛ إذ لا يستطيع الإنسان أن يخلق النطفة التي كان منها؟ أو أن يحولها إلى علقة، أو يحول العلقة إلى مضغة، أو يحول المضغة عظاما، أو يكسو العظام لحما؟
الطريق الثاني: النظر في آيات الله في خلق الكون وهو ما يعرف بـ”دلالة الآفاق”، وهذه كذلك آية من آيات الله العظيمة الدالة على ربوبيته، قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53)، ومن تأمل الآفاق وما في هذا الكون من سماء وأرض، وما اشتملت عليه السماء من نجوم وكواكب وشمس وقمر، وما اشتملت عليه الأرض من جبال وأشجار وبحار وأنهار، وما يكتنف ذلك من ليل ونهار وتسيير هذا الكون كله بهذا النظام الدقيق؛ دله ذلك على أن هناك خالقا لهذا الكون، موجدًا له مدبِّرًا لشؤونه، وكلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات وتغلغل فكره في بدائع الكائنات علم أنها خُلقت للحق وبالحق، وأنها صحائف آيات، وكتب براهين ودلالات على جميع ما أخبر به الله عن نفسه وأدلة على وحدانيته.
وقد ورد في الأثر أن قوما أرادوا البحث مع الإمام أبي حنيفة في تقرير توحيد الربوبية، فقال لهم رحمه الله: “أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام وغيره بنفسها وتعود بنفسها، فترسو بنفسها وترجع، كل ذلك من غير أن يديرها أحد؟”، فقالوا: “هذا محال لا يمكن أبداً، فقال لهم: إذا كان هذا محالا في سفينة فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟”، فنبه إلى أن اتساق العالم ودقة صنعه وتمام خلقه دليل على وحدانية خالقه وتفرده.
وينبغي أن يعلم المسلم بأن الإقرار بهذا التوحيد وحده لا ينجي من العذاب إن توحيد الربوبية هو أحد أنواع التوحيد الثلاثة كما تقدم؛ ولذا فإنه لا يصح إيمان أحد ولا يتحقق توحيده إلا إذا وحد الله في ربوبيته، لكن هذا النوع من التوحيد ليس هو الغاية من بعثة الرسل عليهم السلام، ولا ينجي وحده من عذاب الله ما لم يأت العبد بلازمه توحيد الألوهية، ولذا قال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (يوسف: 106)، أي: ما يقر أكثرهم بالله ربا وخالقا ورازقا ومدبرا- وكل ذلك من توحيد الربوبية – إلا وهم مشركون معه في عبادته غيره من الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تعطي ولا تمنع، وبهذا المعنى للآية قال المفسرون من الصحابة والتابعين، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السماء، ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله وهم مشركون”، وقال عِكْرِمَة: “تسألهم من خلقهم ومن خلق السماوات والأرض فيقولون الله فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره”، وقال مجاهد: ” إيمانهم قولهم: الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره”، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بن زيد: “ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله ويعرف أن الله ربُّه، وأنَّ الله خالقُه ورازقُه، وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ – أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ – فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء: 75 – 77)، والنصوص عن السلف في هذا المعنى كثيرة، بل لقد كان المشركون زمن النبي صلى الله عليه وسلم مقرين بالله ربا خالقا رازقا مدبرا، وكان شركهم به من جهة العبادة حيث اتخذوا الأنداد والشركاء يدعونهم ويستغيثون بهم وينزلون بهم حاجاتهم وطلباتهم، وقد دلل القرآن الكريم في مواطن كثيرة منه على إقرار المشركين بربوبية الله مع إشراكهم به في العبادة، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت: 61)، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (العنكبوت: 63)، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (الزخرف: 87)، وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ – سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ – قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ – سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ – قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ – سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: 84 – 89)، فلم يكن المشركون يعتقدون أن الأصنام هي التي تنزل الغيث وترزق العالم وتدبر شؤونه، بل كانوا يعتقدون أن ذلك من خصائص الرب سبحانه، ويقرون أن أوثانهم التي يدعون من دون الله مخلوقة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضرا ولا نفعا استقلالا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، ولا تسمع ولا تبصر، ويقرون أن الله هو المتفرد بذلك لا شريك له، ليس إليهم ولا إلى أوثانهم شيء من ذلك، وأنه سبحانه الخالق وما عداه مخلوق والرب وما عداه مربوب، غير أنهم جعلوا له من خلقه شركاء ووسائط، يشفعون لهم بزعمهم عند الله ويقربونهم إليه زلفى؛ ولذا قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3)، أي ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا، ومع هذا الإقرار العام من المشركين لله بالربوبية إلا أنه لم يدخلهم في الإسلام بل حكم الله فيهم بأنهم مشركون كافرون وتوعدهم بالنار والخلود فيها واستباح رسوله صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم لكونهم لم يحققوا لازم توحيد الربوبية وهو توحيد الله في العبادة، وبهذا يتبين أن الإقرار بتوحيد الربوبية وحده دون الإتيان بلازمه توحيد الألوهية لا يكفي ولا ينجي من عذاب الله، بل هو حجة بالغة على الإنسان تقتضي إخلاص الدين لله وحده لا شريك له، وتستلزم إفراد الله وحده بالعبادة. فإذا لم يأت بذلك فهو كافر حلال الدم والمال(2).
________________________________
(1) سنن الترمذي (2516)، ومسند أحمد (1 / 307)، وقد حسن الحديث الترمذي وصححه، وصححه الحاكم.
(2) انظر: تفسير ابن جرير (7 / 312- 313).