في مثل هذا اليوم من عام 1958م أسقطت الطائرات الفرنسية عشرات الأطنان من القنابل على قرية ساقية سيدي يوسف التونسية على الحدود التونسية الجزائرية، دمرت القرية بالكامل وقتلت جميع سكانها، لم يتبق في القرية أي أثر للحياة.
قتلى وأسرى من المحتلين الفرنسيين
تبدأ القصة في 11 يناير 1958، عندما هاجم المجاهدون الجزائريون أثناء حرب التحرير بقيادة الرائد الطاهر الزبيري (الذي أصبح قائداً للأركان 1964-1967م) على ثكنة للمحتل الفرنسي في جبل واسطة، لا تبعد عن الحدود التونسية سوى 30 كلم تقريباً، وقتلوا خلال المعركة 17 ضابطاً وجندياً فرنسياً، وأسروا 5 آخرين.
وحسب شهادة منشورة للرائد الزبيري مذكرات آخر قادة الأوراس التاريخيين، حضر هذه المعركة صحفي نمساوي يُدعى كارل بريار، وقد كان بصدد إنتاج تقرير عن جيش التحرير الجزائري، الذي كان يقاتل المحتل الفرنسي بشراسة منقطعة النظير في ذلك الوقت.
توجه الصحفي بريار، بعد المعركة إلى باريس، وأكمل التقرير حول تفاصيل تلك المعركة، واتصل بمجلة باري ماتش، واتفق مع رئيس تحريرها على منحه التقرير مقابل 5 ملايين فرنك فرنسي، بحسب الزبيري.
وما إن نشر التقرير حتى أحدث ضجة كبيرة وسط الرأي العام الفرنسي، الذي اكتشف الوجه الآخر لهزائم فرنسا وجيشها في الجزائر، التي كان يتم التعتيم عليها إعلامياً.
إذ لم يكن الجيش الفرنسي يعترف بوجود ثورة في الجزائر، بل كان يسميها “أحداث الجزائر”، وهذا التقرير أظهر بعض الحقيقة للرأي العام الفرنسي والعالمي حول ما يجري في الجزائر.
رد فعل إجرامي
اتهم الجيش الفرنسي، كذباً، الحرس الوطني التونسي بدعم جيش التحرير الجزائري، وادّعى أنّ شاحنات للحرس التونسي نقلت الجنود الجزائريين إلى قواعدهم جنوب قرية ساقية سيدي يوسف.
وهذا الأمر ينفيه الرائد الزبيري، الذي يؤكد في شهادته أن الحرس التونسي كان له مراكز بالقرب من الحدود الجزائرية، وعادة ما يرابط بالقرب من هذه الحدود لمنع جنود جيش التحرير من الدخول إلى تُرابه، خاصة عند وقوع معارك بالقرب من الحدود، ولم يكن يقدم أي نوع من الدعم لجيش التحرير الجزائري.
لكن الصحافة الفرنسية تحركت لصالح ترجيح نظرية تواجد الأسرى الخمسة على الأراضي التونسية.
وفي الثامن من فبراير 1958م، انتقاماً لهزيمتهم وفضيحتهم، قامت 27 طائرة فرنسية من نوع “بي 27″، تحمل أطناناً من القنابل تزن الواحدة منها ربع طن، وصواريخ جو أرض، بقَصف قرية “ساقية سيدي يوسف” بوحشية، بداية من الساعة 10.10 صباحاً بالتوقيت المحلي في تونس حتى (11:10)، ولمدة تفوق ساعة من الزمن، ألقت الطائرات الفرنسية بآلاف من أطنان القنابل على السكان العزل في قرية “ساقية سيدي يوسف” التونسية النائية، فدمروا القرية عن آخرها، بيوتها ومساجدها ومدرستها، وأبادوا جميع السكان.
واختار المجرمون يوم السبت، السوق الأسبوعية للقرية، حتى يتمكنوا من قتل أكبر عدد من سكان القرية التي تقع على الحدود مع الجزائر، ومن سكان القري المجاورة، وقد كانت تحتضن أيضاً مجموعة كبيرة من اللاجئين الجزائريين.
وبعدها أصدرت قيادة الجيش الفرنسي، بياناً، قالت فيه: إن الطائرات الفرنسية دمّرت مراكز للثوار الجزائريين، على بعد 1.5 كلم من قرية “ساقية سيدي يوسف” التونسية.
في ذلك الوقت كانت تونس دولة مستقلة، فقد نالت استقلاها عام 1956م، قبل المجزرة بعامين، لكن فرنسا كانت وما زالت تحتفظ بقوات عسكرية في البلاد، بينما كانت الجزائر في ذروة جهادها ضد الفرنسيين (1954 – 1962م).
وبعد المجزرة بساعات، توجه صحفيون ومصورون تونسيون وفرنسيون وأجانب، إلى ساقية سيدي يوسف، لتصوير مراكز الثوار الجزائريين “المدمرة”، لكنهم أصيبوا بالذهول عندما رأوا أن قرية دمّرت بأكملها ودُفن أهلها تحت الأنقاض، واستهدف سوقها الأسبوعي المكتظ بالناس، كما هُدّمت مدرسة القرية وتناثرت فوق أنقاضها أشلاء التلاميذ وأدواتهم المدرسية.
ولم يجد الصحفيون والمصورون أي أثر لأي مركز لجيش التحرير الجزائري أو لجنوده أو سلاحه، مما شكك بالدعاية العسكرية الفرنسية، خاصة بعد توثيق الإعلام الدولي لقصف مدنيين عزل، في دولة مستقلة، واستهداف حتى اللاجئين الجزائريين الفارين من جحيم الحرب، التي حاولت فرنسا التعتيم على حقيقة ما يجري من جرائم داخل الجزائر.
خلفت المجزرة الفرنسية البشعة، التي سوّت قرية بأكملها بالأرض، غضباً في أوساط الشعب التونسي، وخرجت مظاهرات عارمة في عدة مدن تطالب بجلاء القوات الفرنسية من البلاد.
ورفعت تونس شكوى إلى مجلس الأمن الدولي، في 12 فبراير 1958، تُطالبه بإدانة هذه الجريمة، وتدخلت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا للوساطة بين تونس وباريس لتهدئة الأمور.
ورافق هذه التحركات الدبلوماسية الأمريكية والبريطانية ضجّة إعلامية دولية، أربكت السلطات الفرنسية، ووضعتها في قفص الاتهام، كما أعادت تسليط الضوء على الجرائم الفرنسية في الجزائر.
ويكشف الزبيري في شهادته أنه أخفى الأسرى بمزرعة للثوار الجزائريين داخل الأراضي التونسية على الحدود، يشرف عليها شقيقه الأكبر بلقاسم، ولم يُعلِم بذلك السلطات التونسية ولا حتى قادة الثورة الجزائرية، حتى لا يتعرض لضغوط لتسليم الأسرى.
ويشير الزبيري إلى أنه استعمل الأسرى للضغط على السلطات الفرنسية لوقف تنفيذ أحكام الإعدام وقطع رؤوس الجزائريين بالمقصلة، ومن بينهم العقيد أحمد بن شريف (قائد الدرك الوطني الأسبق/ توفي في عام 2018م)، مشيراً إلى أنه منذ عام 1958 لم تنفذ بعدها أي أحكام إعدام بالمقصلة في حق الثوار والمناضلين الجزائريين.
جدير بالذكر أن البرلمان التونسي أسقط، بضغط ممن يسمون في تونس “حزب فرنسا” في منتصف العام الماضي مشروع لائحة (بيان سياسي باسم المجلس) تقدّمت بهذه اللائحة كتلة ائتلاف الكرامة (19 مقعداً)، تتعلّق بمطالبة الدولة الفرنسيّة بالاعتذار للشعب التونسي عن جرائمها في حقبة الاستعمار المباشر وبعدها.
وقد شهدت عملية التصويت، آنذاك، موافقة 77 نائباً على اللائحة، فيما تحفّظ 46 نائباً بأصواتهم، واعتراض 5 (128 نائباً شاركوا في عملية التصويت من أصل 217)، ويتطلّب تمرير اللائحة حصولها على الأغلبية المطلقة من الأصوات أي 109 صوتاً بحسب المادة (141) من القانون الداخلي للبرلمان.
وكانت تتضمن اللائحة “مطالبة الدولة الفرنسية بإعلان اعتذارها الرسمي والعلني عن كل الجرائم التي ارتكبتها في حق الشعب التونسي زمن الاحتلال المباشر وبعده، من جرائم قتل واغتيال وتعذيب واغتصاب ونفي وتهجير قسري ونهب للثروات الطبيعية والأملاك الخاصة ودعم صريح للاستبداد وللدكتاتورية”.
وقد صوّت لصالح اللائحة كتلة ائتلاف الكرامة ونواب من حركة النهضة (54 مقعداً) وبعض نواب التيار الديمقراطي (22 مقعداً) وحركة الشعب (14 مقعداً) وقلب تونس (29 مقعداً) ومستقلين، فيما تحفّظت كتلة الحزب الدستوري الحر (16 مقعداً) وكتلة تحيا تونس (14 مقعداً).
وخضعت تونس للاحتلال الفرنسي لمدّة 75 عاماً بداية من 12 مايو 1881م، ونالت استقلالها في 20 مارس 1956م.