إنه المعدن النفيس الغالي الذي يتنافس عليه الناس في الدنيا، ويسعى الكثيرون لامتلاكه والاستكثار منه، وهو حِلية النساء التي يتزينَّ بها ويتجمَّلن فلا يصيبه الصدأ مع مر السنين ولا يعتريه التغير يوماً بعد يوم، بل يزداد رونقاً وبريقاً وصفاء ولمعاناً، وفي وقت الحاجة والعوز يظهر دوره في سد الحاجة ودفع الفاقة فتتبدل الحال إلى الأحسن.. كما أنه حِلية المؤمنين والمؤمنات في جنات النعيم وعدهم الله به خالصاً نقياً لا غش فيه ولا كدر، كنقاء قلوبهم وخلوصها من الشرك.
إن في حياتنا أناساً رائعين، هم كالذهب في معدنهم، أنقياء أصفياء، لا يزيدهم الوقت إلا أصالة ونبلاً، ووفاء وصدقاً، لا يتغيرون مع تغير الأحوال ولا يتبدلون مهما تبدلت الظروف أو ذهبت الأموال، قلوبهم على الوفاء باقية، وأنفسهم على الإخاء دائمة، لا يتحولون عنك لضُر مَسَّك، ولا يتملقون لك لنعمة أتتك، بل يزدادون قرباً لك والتصاقاً بك عند الحاجة إليهم، وفي وقت المحن يجعلهم الله سبباً في تخفيف الداء وتخطي البلاء.
فهم من خيار الناس، يذكّرونك إذا نسيت، ويعينونك إذا تذكّرت، ينفسون الكرب، ويسترون العيب، يتمثلون قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نفَّس عن أخيه كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (صحيح الترمذي)، فإن معدنهم صافٍ خالص كالذهب لا يتغير ولا يصدأ! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» (رواه مسلم).
الوالدان كنز لا يعوّضه متاع الدنيا وهما كالذهب الخالص فكان البر والإحسان إليهما واجباً على الأولاد
الوالدان
وتزداد حياتنا قيمة بأمثال هؤلاء الناس، ويصير لها معنى وطعم خاص، ومذاق لا يتذوقه إلا من عايشهم وحظي بالقرب منهم، وعلى رأسهم الوالدان، فهما أنفس الناس وأخلصهم لأولادهما، فهما عماد البيوت وأساسها وأرضها التي ينبت فيها الذرية من البنين والبنات، يسقيان النبتة الصغيرة منهم بحب حتى تكبر، ويهتمان بالكبيرة بصبر حتى تشتد، وبالضعيفة حتى تقوى، ويبذلان الوسع والجهد والطاقة دون منّ أو أذى، يحملان القلب الصادق في حبه، الرحيم على ولده، فلا يتغير هذا الحب منهما منذ إنجاب الطفل إلى آخر لحظة في حياتهما، فكم من والد أنفق على ولده حتى تعلم وصار نجماً ساطعاً في عِلمه، وكم من والد زوَّج ولده وأنفق عليه حتى استغنى، وكم من أمٍّ سهرت وربت وأعطت وبذلت دون أن يغيّرها مرور الوقت بضيق أو ملل، فالوالدان كنز كبير لا يعوضه متاع الدنيا جميعاً، وهما كالذهب الخالص الذي لا يصدأ! ومن هنا كان البر والإحسان إليهما واجباً على الأولاد، مع الدعاء لهما «وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً».
الولد البارّ
ومن هؤلاء أيضاً الولد البار بوالديه -ذكراً كان أم أنثى- المطيع لهما الرحيم معهما لا سيما حال الكبر وهزة الشيخوخة وضعفها، فلم ينظر لعلمه وماله، ولم تغيره مكانته ومنصبه، ولم يستصغر مكانهما؛ فهو يعرف أن ذلك كله من كسبهما، فهو معهما كالذهب الحقيقي الذي لا يصدأ! فبره لوالديه خالص لله لا تشوبه شائبة، يتقرب إلى الله تعالى به، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً لذلك فقال: «بينما ثلاثة نفر يمشون، أخذهم المطر، فأووا إلى غار في جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله، فادعوا الله بها لعله يفرجها عنكم، قال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم حلبت، فبدأت بوالديّ أسقيهما قبل بني، وإني استأخرت ذات يوم، فلم آت حتى أمسيت، فوجدتهما ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما، وأكره أن أسقي الصبية، والصبية يتضاغون عند قدمي حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلته ابتغاء وجهك، فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، ففرج الله، فرأوا السماء..» (رواه البخاري).
الزوجة الصالحة
وإذا كان الإنسان حريصاً بطبعه على اقتناء الذهب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا أخبرك بخير ما يكتنز المرء؟ المرأة الصالحة؛ إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته» (رواه أبو داود)، تلك المرأة التي وُصفت بالصلاح، لا تقصر في حقوق زوجها ما استطاعت، تعينه في أموره كلها، فترعى بيته، وتربي ولده، وتحفظ عرضه، ولا تتحول عنه إذا ذهب ماله أو اعتراه ضعف أو علة، بل هي معه في ضرائه قبل سرائه، تواسي وترحم، وتدعو وتصبر، وتمسح على جراحات آلامه ببلسم إخلاصها له، تتقرب بذلك إلى ربها.
وكم من زوجات صبرن مع أزواجهن على لأواء الحياة ومتقلبات الأيام، من شدة وابتلاء، في مال أو جسد أو عمل وغيره فكنَّ عوناً لهم بعد الله تعالى، فقدمن من أموالهن وأوقاتهن ورعايتهن ما استطعن، فهن كالذهب الذي لا يتغير مع مرور الأيام ولا يصدأ، بل يزداد نفاسة يوماً بعد يوم.
الزوج الصالح
أما الزوج الصالح الذي حث النبي صلى الله عليه وسلم على تزويجه وقال: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد» (رواه الترمذي)، فما ذاك إلا لنفاسة معدنه وحسن معشره، فمثل هذا الزوج زينة للمرأة وكنز لها، فلن يتغير مع تغير الأيام، فهو إن عاشر فبالمعروف، وإن فارَق فبالإحسان، لن يأكل لها مالاً، ولن يضيع لها حقاً، ولن يفشي لها سراً، ولن ينقص من قدرها أو يهينها، فهو في عشرته لها من خيار الناس، أمين في عهده خالص في وده كالذهب لا يصدأ.
الصداقة الحقة القائمة على حب الله ورسوله تدوم وتنفع في الدنيا والآخرة
الصديق
أما الصديق فهو معدن نفيس من معادن الناس، وهو قليل أو نادر، حيث لا تربطه في الغالب بصديقه رابطة الدم أو النسب أو الزوجية، لكن وجوده مهم له ومؤثر عليه في الدنيا والآخرة، «والصديق من يَصدقك في مودته وتَصدقه في مودتك» (القرطبي)، وقد ورد ذِكر الصديق في القرآن الكريم مقروناً بذكر الأهل والأقارب والأرحام في سياق الحديث عن الأكل في بيوتهم، مما يُشعر بمدى التقارب بين الأصدقاء وإزالة التكلف في العلاقة بينهم.
وكان عليٌّ رضي الله عنه يقول: عليكم بالإخوان، فإنهم عدة الدنيا وعدة الآخرة؛ ألا تسمع إلى قول أهل النار: «فما لنا من شافعين ولا صديق حميم» (القرطبي)، قال قتادة: يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحاً نفع، وأن الحميم إذا كان صالحاً شفع. (ابن كثير)، «وقال الحسن: استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعة يوم القيامة (البغوي)، لذلك فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على صحبة الصالحين، وبيَّن أن للصحبة والصداقة أثراً فقال: «مَثلُ الجليس الصالح، كمَثل العطَّار، إن لم يُعطِكَ من عِطرِه، أصابك من رِيحِهِ» (صحيح الجامع)، ودعا إلى حسن اختيار الأصدقاء فقال: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (رواه الترمذي).
والصداقة الخالصة القائمة على حب الله ورسوله تدوم وتتصل ولا تنقطع، وهي تنفع في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا نفعها واضح معلوم في الشدة أو في الرخاء، أما في الآخرة فإن الله تعالى يقول: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف: 67) أي: كل صداقة وصحابة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عز وجل، وقال ابن عباس: صارت كل خلة عداوة يوم القيامة إلا المتقين (ابن كثير).
وهناك صنف زائف يتجمَّل بلباس الصديق وما هو بصديق، كالذهب الزائف تظهر حقيقته عند أول اختبار له! لذا فإنه لا يضر بالصداقة أن يطلب الصديق توثيق ما له من دَين أو حق مالي أو أمانة عند صديقه، فقد دعانا الله إلى حفظ الحقوق.
كن كالذهب..
إننا جميعاً بحاجة إلى أناس صادقين مخلصين، أقوياء في إيمانهم، نتخطى معهم الأزمات التي تطرأ علينا من حين لحين، وفي زمن الفتن والابتلاءات فإن علينا أن نثبت، فالله تعالى يقول: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت: 2)؛ أي: يُبْتَلُونَ في أنفسهم وأموالهم. (الطبري)، قال السعدي: «فالابتلاء والامتحان للنفوس بمنزلة الكير، يخرج خبثها»، وهذا ما يُفعَل بالذهب لكنه لا تزيده فتنة النار إلا نقاء وأصالة، وهكذا أنت أيها المؤمن.