يُحدث الذكاء الاصطناعي اليوم ثورةً كبرى في العالم، حيث تهتم الدول المتقدمة بتوظيفه في شتى الميادين؛ الطبية والعسكرية والاستخباراتية والصناعية والبيئية والمالية والخدماتية والأمنية، ومجال الطاقة، ولكن هذا التطور عرضة للاستخدام غير الأخلاقي إذا وقع في أيد غير أمينة لا تخاف الله، فلم ننس كيف دمر العلم المفسد هيروشيما بقنبلة ذرية منذ 75 عاماً، ومن يدري الآن أي يد خبيثة باسم العلم والتجارب نشرت فيروس «كورونا»!
وقد دعت مجموعة من العلماء إلى حظر تطوير أسلحة يتم التحكم بها بواسطة الذكاء الصناعي، فقد يصيبها عطب بطريقة غير متوقعة، فتقتل أبرياء، وتساهم 89 منظمة غير حكومية في تنظيم حملات تدعو إلى وقف إنتاج «الإنسان الآلي القاتل» والضغط لإبرام معاهدة دولية بهذا الخصوص(1).
اعتاد البريطانيون استقبال تهنئة الملكة “إليزابيث” للعام الجديد عبر القناتين الأولى والثالثة، ولكنهم هذا العام شاهدوا الملكة عبر القناة الرابعة، فقدمت شخصية افتراضية للملكة بالاعتماد على تقنية الذكاء الاصطناعي، وقامت القناة بهذا لتسليط الضوء على مدى خطورة أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تقوم بمحاكاة شكل وصوت أي شخصية بسهولة، وهي أنظمة تعرف باسم “التزييف العميق”، حيث يتم التحكم بدقة عالية في تعبيرات الوجه وحركة الفم، ومحاكاة حركة وجه الشخصية الحقيقية(2).
وأفاد تقرير مؤسف صدر حديثاً بأن صوراً زائفة لأكثر من مائة ألف امرأة من دون ملابس انتشرت عبر تطبيق “تليجرام”، بعدما استُخدم برنامج للذكاء الاصطناعي من أنظمة “التزييف العميق” للتلاعب بصور لهن موجودة على مواقع للتواصل الاجتماعي(3)، بل وصل الأمر إلى تزييف مقاطع فيديو جنسية لهن(4).
الذكاء الاصطناعي
يعرف الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) بأنه الذكاء الذي تبديه الآلات والبرامج بما يحاكي القدرات الذهنية البشرية وأنماط عملها، مثل القدرة على التعلم والاستنتاج وردّ الفعل على أوضاع لم تبرمج للآلة، كما أنه اسم لحقل أكاديمي يعنى بكيفية صنع حواسيب وبرامج قادرة على اتخاذ سلوك ذكي.
وبفضل هذه التقنية، يمكن للهواتف فهم أوامر مستخدميها، والترجمة الفورية للعبارات المكتوبة بلغة أجنبية، وتسهم التقنية في دعم محرك البحث.
أما “فيسبوك”، فيسمح “التعلم العميق” للشبكة بالتعرف على الوجوه في الصور، واختيار المحتوى المناسب وعرضه للمستخدم على صفحة آخر الأخبار، ودعم المساعد الشخصي الرقمي.
أجرت “فيسبوك” تجربة استعانت فيها بأجهزة “روبوت” تتفاوض بشأن ملكية متعلقات افتراضية، وكان الهدف من ذلك فهم الدور الذي يؤديه علم اللغويات في هذه المناقشات، وتمت برمجة الأجهزة على استخدام اللغة بغية معرفة كيفية تأثير هذا على هيمنتها على النقاش، وسلطت بعض التقارير الضوء على أن الأجهزة اخترعت في تلك اللحظة لغة جديدة لمراوغة سيطرة الإنسان، كان أفضل تفسير هو أن الشبكات العصبية عدلت ببساطة لغة الإنسان بهدف التفاعل بطريقة أفضل كفاءة(5).
من أمثلة الاستخدام المفيد
يحتل الذكاء الصناعي مساحة كبيرة في مجال البحث العلمي حالياً، كما أن تصميم الأنظمة وتجربتها في تعقيد مستمر.
مثلاً؛ هناك نظام ذكاء اصطناعي يقرأ لغة الشفاه ليساعد ضعاف السمع، وروبوت لتوصيل الطلبات للمنازل، وبدأت شركة للشحن تجارب الاستعانة بأجهزة روبوت موجهة في لندن، وهناك روبوتات لتدريب الأطباء والممرضين، ويتنبأ الذكاء الاصطناعي بالإصابة بسرطان الثدي، وأطلقت شبكة «BBC” أداة تستند إلى الذكاء الاصطناعي لتحويل النص إلى كلام مسموع على منصتها الرقمية، وتم تطوير الأداة باستخدام الشبكات العصبية العميقة، والذكاء الاصطناعي يتنبأ بمستقبل الزراعة، وأعلنت “تسيلا”، عملاق صناعة السيارات الكهربائية، أن جميع سياراتها سوف تُزود ببرمجيات القيادة الذاتية.
وقررت اليابان استخدام الذكاء الاصطناعي للمساعدة في مكافحة معدلات الإنجاب المنخفضة في البلاد، وسيستخدم الذكاء الاصطناعي في تقديم خدمات اختيار الشريك التي من شأنها أن تساعد اليابانيين في تكوين الأسرة(6).
فيما قرّرت “اليونسكو” استهلال عملية صياغة توصية عالمية بشأن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وكلّفت متخصصين، وشاورت الخبراء والهيئات المعنية والمؤسسات الأكاديمية، من أجل البتّ فيه خلال دورة المؤتمر العام للمنظّمة في نوفمبر 2021، وحذّرت مديرة “اليونسكو”، قائلة: “يجب أن نبقى متنبّهين كي يتطور الذكاء الاصطناعي في خدمتنا، وليس على حسابنا.. نحن بحاجة إلى أساس قوي من المبادئ الأخلاقية كي نسخّر الذكاء الاصطناعي لخدمة المصلحة المشتركة.. إنها بالفعل قضية عالمية”.
وخلال السنوات الأخيرة، ولا سيما منذ تفشي “كوفيد- 19″، طورت العديد من الحلول القائمة على الذكاء الاصطناعي، فيما يتعلق بالإسراع في البحث عن لقاح، ورصد حالات الاختلاط بالأشخاص الذين تثبت إصابتهم بالفيروس، وساهم الذكاء الاصطناعي في ازدهار التطبيب عن بُعد والتعلّم عن بعد، ناهيك عن تسخير الأجهزة الإلكترونية الطائرة المسيّرة لإيصال المستلزمات الطبية.
مخاوف
تثير الإمكانات الكامنة في الذكاء الاصطناعي، كما يتجلّى في المنشورات العلمية على غرار الأعمال الخيالية، الخوف من أن تبدأ الآلات في اتخاذ القرارات نيابة عن الإنسان أو ضده، وأن تؤدي إلى تقويض الحق في خصوصية الأفراد والتلاعب بالمستخدمين، وبالتالي المساس بالحريات الأساسية وحقوق الإنسان، وتثير الكميات الهائلة من البيانات التي تُجمع وتخضع للتحليل يومياً قضايا خطيرة؛ مثل السرية، واحترام الحياة الخاصة، وخطر ظهور الممارسات التمييزية، وانتشار الصور النمطية.
ويرسي المشروع المطروح للنقاش هذه المفاهيم الأساسية:
– النسبة والتناسب: يجب ألا تتجاوز تقنيات الذكاء الاصطناعي الحدود الموضوعة مسبقاً لبلوغ هدف مشروع أو غاية، ويجب أن تتكيف مع سياق استخدامها.
– قيام البشر بالمراقبة واتخاذ القرارات: يتحمل البشر المسؤولية الأخلاقية والقانونية تجاه كافة مراحل دورة حياة نظم الذكاء الاصطناعي.
– إدارة البيئة: يجب أن تسهم نظم الذكاء الاصطناعي في الارتباط السلمي القائم بين جميع الكائنات الحية، وأن تحترم البيئة الطبيعية.
ومن جهتها، ستساعد «اليونسكو» على اتخاذ إجراءات لإذكاء الوعي بهذا الخصوص، وتصميم معدات لتقييم الآثار الأخلاقية التي ينطوي عليها الذكاء الاصطناعي في شتّى المجالات(7).
معجزة الخالق
يطمح الباحثون في انتقال أساليب الذكاء الفطري وخبرة الإنسان المكتسبة إلى نظم برمجة الحاسبات، لكي يمكن الاستفادة بها في كثير من مجالات الحيات المختلفة، ولكن هيهات هيهات! فعدد نقاط التشابك العصبي في قشرة المخ البشري وحدها يبلغ حوالي 125 تريليون نقطة، وهو عدد النجوم الذي يكفي لملء 1500 مجرة بحجم مجرة درب التبانة(8)، كما لا يمكن للآلة محاكاة الإحساس والقصد البشري أو التعبير عن رغبات أو مخاوف.
وقد كشفت دراسة أمريكية أن الجانب المسؤول عن الذاكرة في العقل البشري أكبر عشر مرات مما كان يظنه العلماء، ويرى الباحثون -بحسب دراسة نشرتها مجلة “إي لايف”- أن العقل البشري يمكنه تخزين ما يفوق مليون جيجابايت من البيانات، وهو ما يقدّر بنحو 4.7 مليار كتاب، أو 670 مليون صفحة ويب.
وتوصل الباحثون في معهد علم الأحياء العصبي في كاليفورنيا، إلى هذا الاكتشاف من خلال إلقاء نظرة جديدة على اللبنات الأساسية للتعلم في الدماغ، كما قاموا بفحص الاتصالات بين الخلايا العصبية المجهرية التي تعرف باسم نقاط الاشتباك العصبي، ومركز تخزين وتنشئة الذكريات، وتكشف الأبحاث أن آليات التعامل مع الذاكرة لدينا هي أكثر دقة بكثير مما كان يعتقد سابقاً، حيث تعادل سعة التخزين العقلي ما لا يقل عن 8 آلاف تريليون بت (8 أمامها 15 صفراً)، وهو يعادل البث المستمر لنحو ألفي سنة من الموسيقى(9).
فسبحان الله الذي كرم بني آدم، وخلقهم في أحسن تقويم، وجعل أكرمهم أتقاهم، وأمرهم ألا يفسدوا في الأرض بعد إصلاحها.
_____________________________________________________
(1) دعوة لحظر الروبوتات القاتلة في الحروب، 16 فبراير 2019
https://www.bbc.com/arabic/science-and-tech-47264453
(2) Deepfake queen to deliver Channel 4 Christmas message
Published 23 December 2020
(3) برنامج للذكاء الاصطناعي ينشر صوراً عارية مزيفة لآلاف النساء، 21 أكتوبر 2020
https://www.bbc.com/arabic/science-and-tech-54580720
(4) مقاطع الفيديو الجنسية الزائفة “تسبب لي الكوابيس”، 6 يناير 2021
https://www.bbc.com/arabic/science-and-tech-55516249
(5) ما هي حقيقة قصة الذكاء الصناعي “المخيف” في فيسبوك؟ 2 أغسطس 2017
https://www.bbc.com/arabic/science-and-tech-40797071
(6) Japan to fund AI matchmaking to boost birth rate. 8 December 2020.
https://www.bbc.co.uk/news/world-asia-55226098
(7) اليونسكو تجتاز مرحلة مهمة نحو اعتماد أول وثيقة تقنينية عالمية بشأن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي
اليونسكو 17 سبتمبر 2020
(8) New imaging method developed at Stanford reveals stunning details of brain connections.
Stanford University School of Medicine, 17 November 2010.
(9) Nanoconnectomic upper bound on the variability of synaptic plasticity. Thomas M Bartol Jr et al. eLife, 30 November 2015.