الشذوذ الجنسي أزمة ليست عابرة في واقع الإنسان المعاصر؛ فرغم إثمها الأخلاقي، فإن أبعادها الفلسفية ذات عمق وتأثير على مستقبل الإنسانية؛ فالشذوذ يستقي بقاءه من الأفكار العدمية، التي لا تميز بين الخير والشر، ويكشف الشذوذ عن مأزق إنساني يتمثل في غياب الغاية والمعنى عن الحياة وتحولها إلى عبثية، وربما تنتهي بالإنسانية إلى الذوبان.
الكون قائم على التنوع والاختلاف والتكامل والانسجام، وكل الأشياء هي نتاج التفاعل بين الذكر والأنثى، والشذوذ هو خروج عن تلك الفطرة، وتفشيه يهدد البشر بالانقراض، في كتابه «دين الحياء»، يشير الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن إلى الفطرة، باعتبارها مستودع القيم الأخلاقية ذات الأصل الديني؛ حيث يقول: «الجرائم التي يرتكبها الإنسان تنعكس آثارها عليه بكُليته، بموجب القانون الملكوتي الذي يقضي بأن انتهاك الحدود ينزع عن الإنسان ألبسة لا يراها البصر، وإنما تراها البصيرة».
شتراوس: لقاء الرجل والمرأة هو الأرضية التي التقت عليها الطبيعة فهو نقطة البداية وأصل الثقافة
ويشير عالم الاجتماع الفرنسي كلود ليفي شتراوس إلى أن «لقاء الرجل والمرأة هو الأرضية التي التقت عليها الطبيعة والثقافة؛ فهو نقطة البداية وأصل الثقافة»؛ فالجنس ليس عرضاً في حياة الإنسان، لكن تكمن خطورته في الحياة المعاصرة في مساعيه أن يكون هو مرجعية ذاته، منفصلاً عن كل قيمة ووظيفة، وفي كتابه «الحب السائل» يلفت الفيلسوف الشهير زيجمونت باومان الانتباه إلى قضية ذات أهمية، وهي رغبة الجنس أن يتحلل من التزاماته، فيقول: «العقل الحديث السائل يرى في الالتزامات الدائمة ظلماً وغماً، وفي الارتباط المتين تبعية وتقييداً، فذلك العقل ينكر الحق في الالتزام والارتباط، فهما يعكران صفو العلاقات البشرية القائمة على الإشباع الفوري للرغبة».
انتهاء الاستخلاف
هو إهدار للطاقة حيث يحقق نوعاً من الإشباع الجنسي الآمن الذي لا ينتج عنه إنجاب وتحمل مسؤوليات
ولا شك أن الشذوذ يحقق نوعاً من الإشباع الجنسي الآمن الذي لا ينتج عنه إنجاب وتحمل مسؤوليات عائلة، لكنه يعد إهداراً للطاقة؛ حيث يؤكد باومان أن «كل كرب يؤذي ويعذب في أوانه وبطريقته، والكرب الذي يعانيه الإنسان الجنسي هو كرب الإنسان المستهلك»، فمع تحول الجنس إلى سلعة، خضع لمنطق السوق ومقتضياتها، القائمة على المادية الشرهة، التي لا تؤمن إلا بالربح، ولا تستهدف إلا اللذة، وبالتالي تصير فكرة استخلاف الإنسان في الأرض من خلال العلاقة المشروعة بين الرجل والمرأة، كمدخل لإعمار الكون؛ محل احتقار واستهانة، وبذلك يظن «الشاذ» أنه حرر نفسه من مهمتها الاستخلافية في الكون، وبهذا المنطق الآثم تتفشى الرغبات لتحويل الجنس إلى ممارسة مأمونة العواقب، تبتغي التفريغ والإهدار وليس البناء والإنجاب.
تكشف عالمة الاجتماع الأمريكية جيل دينيس، في كتابها «بلد الإباحية»، عن تأثر الجنس بالرؤية المادية، بعدما بات الربح هو الغاية من خلق هذا السعار الجنسي، وغابت كل القيم؛ فأثناء إعدادها للكتاب قامت بزيارة أستديوهات إنتاج الأفلام الإباحية، وتأكدت أن ما يحكم القائمين على تلك الصناعة الآثمة هو المال فقط، واللحظات التي يشعرون فيها بالانتشاء هي لحظة توزيع الأرباح، لكنها أشارت إلى قضية مهمة ترتبط بمسألة الشذوذ؛ وهي أن «الإباحية غدت أكثر تطرفاً، وبات نجاح المنتجين متوقفاً على توفير مشاهد جديدة تبلغ أقصى درجات التطرف الكفيل بجذب مزيد من المستهلكين».
الشذوذ نتاج غياب للرؤية الفلسفية للكون وتلاشي غاية الإنسان بالوجود وتراجع فكرة المصير من الأذهان
وتؤكد دينيس أن هدف تلك الصناعة الإباحية هو خلق إنسان سهل الانقياد؛ فالجنس يُستخدم للسيطرة على مستهلكيه، ومن هنا يُطرح الشذوذ كبديل آمن، ويحمل قدراً من الغرابة، والسهولة في السيطرة على البشر؛ لذا تُضخ فيه أموال طائلة، لنقله من «الفكرة الآثمة» إلى أن يصبح ممارسة عامة لا تحظى بالاستهجان أو الرفض الاجتماعي.
والشذوذ هو نتاج لأزمة فلسفية، إذ مع غياب الرؤية الفلسفية للكون، وتلاشي غاية الإنسان في الوجود، وتراجع فكرة المصير من الأذهان، أصبح الإنسان تائهاً، وأصبحت الغريزة تتحكم في السلوك، وباتت فكرة الإشباع غير متحققة، وغير كافية لتحقيق السعادة؛ فكان اللجوء إلى الشذوذ، ذلك الحل المدمر للإنسانية.
وفي كتابه «الدين والعقل الحديث»، يؤكد المفكر البريطاني ولتر ستيس أنّ «النظرة الحديثة للوجود التي يتبناها المذهب الطبيعي والاتجاه الوضعي أنتجت طوال القرون الثلاثة الماضية انحطاط الأخلاق وتوسع الحروب وشيوع الفوضى وانتشار الإدمان وظهور الشذوذ وقلق الحياة وغموض المستقبل»، فقد أفرزت هذه النظرة الوضعية فلسفة العدمية، والفوضوية، والعبثية واللامعقول؛ فأصبح الإنسان بلا هدف، وبلا غاية، بعدما غابت البوصلة الأخلاقية.
يُنكر استمرار الحياة بعدما حوَّل الفعل الجنسي لإنجاب الذرية وتحقيق الاستخلاف إلى فعل مهدر
والعدمية في فكر الحداثة تطالب بإزالة الحواجز بين كل شيئين متمايزين؛ فلا فارق بين الخير والشر، وبين المقدس والمدنس، فهي تسلب من الإنسان المعنى والغاية، فبعد أن كانت الفلسفة «المانوية» أو «المثنوية» تقوم على ثنائية الخير والشر، أصبحت العدمية تضحي بالخير على مذبح الشر، وبالفطرة السوية لصالح الشذوذ.
إنكار الحياة
فالمبدأ الكامن وراء العدمية يمكن تلخيصه في مقولة الفيلسوف الألماني نيتشه بـ«إنكار الحياة»، ولا شك أن الشذوذ ينكر استمرار الحياة، بعدما حول الفعل الجنسي لإنجاب الذرية وتحقيق الاستخلاف، إلى فعل مهدر، لا فائدة منه، وهذه الروح الإنكارية التي تقف وراء منطق العدمية، تتحرك من خلال مفردات متعددة، أبرزها الفعل الجنسي الشاذ، إذ تنظر إلى الحياة إنشاء واستمراراً باستهانة؛ فالعدمية لا ترى غاية للوجود، ولا معنى للحياة، وتتستر خلف مقولات واهية من حرية الإنسان وحقه في التصرف في جسده، لإضفاء مشروعية على الشذوذ.
المسيري: الدفاع الشرس عن الشذوذ الجنسي والدعوة إلى تطبيعه هجوم على المعيارية البشرية والطبيعة
وتأسيساً على ذلك، تحدث د. عبدالوهاب المسيري، في كتابه «المادية وتفكيك الإنسان»، عن الشذوذ أو «المثلية» بأن الفلسفة المادية تقف خلفها، فيؤكد أن الحضارة المادية الغربية تفسر الأخلاق تفسيراً مادياً، ومن ثم يرى المسيري أن الإباحية والشذوذ ليسا مشكلة أخلاقية، لكنهما قضية معرفية؛ فهما جزء من الهجوم على الطبيعة الإنسانية، أو الفطرة، وعلى قداسة الإنسان، وتفكيكه؛ فالإباحية جردت الإنسان من ملابسه بعدما نزعت القداسة عنه، وأصبح جسده مصدراً للذة، أما الشذوذ فهو إلغاء للثنائية الإنسانية المرتكزة على ثنائية الخلق من ذكر وأنثى، لذا يصير الشذوذ تجسيداً للعدمية، التي تنبع من رؤية معرفية تقوم على المادية.
يقول المسيري: «إن الدفاع الشرس عن الشذوذ الجنسي والدعوة إلى تطبيعه، يمكن إعادة النظر إليه لا كدعوة للتسامح أو تفهّم وضع الشواذ جنسياً، بل كهجوم على المعيارية البشرية وعلى الطبيعة البشرية»، وهو معنى يؤكده باومان في كتابه «الحداثة والهولوكوست» في أن الإبادات والشذوذ هو سيرورة للحداثة وليس انحرفاً طارئاً.
الشعراوي: الطبيعة تأبى الشذوذ فعندما يوضع الموجب على الموجب في الكهرباء تحدث الكارثة
وقد سعى بعض المفكرين الغربيين لتحويل الشذوذ من انحراف أخلاقي، إلى أيديولوجيا، مثل ميشيل فوكو من خلال كتاباته، منها «تاريخ المثلية»، إذ يعتبر الجسد هو المادة الخام للجنس، وهو ميدان للصراع الثقافي الأيديولوجي، معلناً «جسدي لي وحدي»، ونتيجة لانحرافاته أصيب بمرض الإيدز وتوفي عام 1984م.
والحقيقة أن «شرف الإنسانية في الإبقاء على ألبستها المعنوية»، كما يقول طه عبدالرحمن، أو كما يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي، فإن الطبيعة تأبى الشذوذ، حتى الكهرباء، فعندما يوضع الموجب على الموجب تحدث الكارثة.