يقول الله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11)، هذه دعوة صريحة إلى إصلاح النفس أولاً، وبصلاحها ينصلح البيت، ثم المجتمع كله، ويحدث التغيير المنشود إلى الأفضل.
يقول صاحب «الظلال»، يرحمه الله، في تفسير هذه الآية: «فإن الله لا يغير نعمة أو بؤساً، ولا يغير عزّاً أو ذلةً، ولا يغير مكانة أو مهانة، إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم».
ويقول مصطفى صادق الرافعي في كتابه «وحي القلم»: «وفي ترائي الهلال ووجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق آخر، وهو مع إثبات رؤية الهلال وإعلانها إثبات الإرادة وإعلانها، كأنما انبعث أول الشعاع السماوي في التنبيه الإنساني العام لفروض الرحمة والإنسانية والبر، وهنا حكمة كبيرة من حكم الصوم، وهي عمله في تربية الإرادة وتقويتها بهذا الأسلوب العملي، الذي يدرب الصائم على أن يمتنع باختياره عن شهوته ولذاته، مصرّاً على الامتناع».
الرافعي: هنا حكمة كبيرة من حكم الصوم وهي عمله في تربية الإرادة وتقويتها بهذا الأسلوب العملي
وفي شهر رمضان يتغير كل شيء من حولنا؛ برنامج المجتمع اليومي، وبرنامج الأسرة، والبرنامج الشخصي لكل فرد، تتغير مواعيد النوم والعمل، ومواعيد الزيارات والطعام، تتغير عبادة الإنسان لربه، فيكون أكثر قرباً لله، وأكثر قراءة للقرآن، وأكثر صلاة، ويشعر بأنه غدا إنسان آخر.
فرصة لتغيير حقيقي
وشهر رمضان فرصة عظيمة لتحقيق تغيير حقيقي في جانب العبادة والأخلاق والسلوك، وهذا التغيير يحتاج إلى التكرار، والإنسان، كما يقول بعض علماء النفس، يحتاج من أسبوع إلى ثلاثة أسابيع تقريباً ليعتاد على سلوك جيد، وفي رمضان يمكن تكرار العادات الحسنة أكثر من أربعة أسابيع، مما يعني أننا نستطيع تكرار العادات الحسنة التي تبقى معنا مدى الحياة.
وشهر رمضان يعلمنا أننا نستطيع أن نتغير لو أننا قررنا ذلك، فمن أهم شروط التغيير الرغبة والإرادة الصادقة التي تنبع من النفس؛ لأن الله قد أودع الإنسان طاقة كبرى للتغيير في هذا الشهر، فإذا التقت الرغبة الصادقة مع الإرادة القوية أمكن إحداث نقلة في سلوك الإنسان وأخلاقياته، ومن شروط التغيير أيضاً معرفة طرق التغيير الصحيحة، بحيث يعلم من أين يبدأ وإلى أين سينتهي، حتى يحقق الغاية المرجوة من التغيير، وكذلك لا بد من التطبيق السليم لطرق التغيير من خلال التدرج فيها، وعدم العجلة في تلمس نتائجها.
إذا التقت الرغبة الصادقة مع الإرادة القوية أمكن إحداث نقلة في سلوك الإنسان وأخلاقياته
وشهر رمضان فرصة للتغيير لمن كان مفرّطاً في صلاته: فلا يصليها مطلقاً، أو يؤخرها عن وقتها، أو يتخلف عن أدائها في جماعة بالمسجد، وفرصة للمحافظة على هذه الصلاة، وألف المساجد وعمارتها بالذكر والتسبيح وحلق القرآن، فاستعن بالله واعزم من الآن أن يكون هذا الشهر بداية للمحافظة على الصلاة، وتلبية النداء، والصف الأول؛ لتدخل في قوله سبحانه: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ {34} أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ) (المعارج)، ولتتصف بصفات المؤمنين (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) (المعارج: 23).
وشهر رمضان فرصة للتغيير لمن كان مقصّراً في صلاة الفجر وقيام الليل، يقول لهم: إنكم تستطيعون المحافظة عليها كل يوم وكل ليلة لو أردتم ذلك، فلماذا الكسل طوال العام؟
وشهر رمضان فرصة للتغيير لمن هجر القرآن، قراءة وتدبراً وحفظاً وعملاً بأحكامه، حتى أصبح القرآن نسياً منسياً، فرمضان هو شهر نزول القرآن، وبداية التغيير يقول لك: تستطيع أن تختمه في كل شهر لو أردت ذلك، فلماذا الهجر طوال العام؟
تصالح مع القرآن، وابدأ صفحة جديدة في رمضان، وحدّد لنفسك ختمة وحدك بتدبر، وختمة في مقرأة المسجد، وختمة في الصلاة، فقد كان للإمام الشافعي رحمه الله ستين ختمة في رمضان.
فرصة لمن تعوّد على حياة الترف وحب الدعة أن يأخذ منه درساً في تربية النفس
وشهر رمضان فرصة لمن ابتلاه الله تعالى بتعاطي الحرام من مخدرات ومسكرات أو دخان، وقد صام عن كل ذلك في نهار رمضان، ألا يفعل ذلك بعد إفطاره، وأن يستمر على جهاده وعزيمته التي جعلته يمسك طوال ساعات الصيام، يقول للمدمن المدخن: إنك تستطيع بإرادتك أن تمتنع عن تعاطي الحرام، فلماذا لا تقلع عن ذلك إلى الأبد؟!
وشهر رمضان فرصة للتغيير لمن تعود على حياة المترفين، ونشأ على حب الدعة واللين، أن يأخذ من رمضان درساً في تربية النفس على المجاهدة والخشونة في أمر الحياة؛ فربما تتغير الحال، فقد جاء في الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم»، فلا يكن همك في هذا الشهر ما تأكل وما تشرب وما تلبس وما تنكح.. ليكن همك رضا ربك عز وجل، وإحسان العبادة له سبحانه وتعالى، والاهتمام بأمر المسلمين وأحوالهم؛ فكن صاحب همة لا ترضى بالدون ولا تقنع بما دون النجوم، ولْنربِّ أنفسنا على معالي الأمور.
وشهر رمضان فرصة للتغيير من مساوئ أخلاقنا وفحش أقوالنا؛ فالصوم يدرب المسلم على أن يمتنع باختياره عن الأخلاق السيئة، ويضع له منهجاً للتغيير ويعطيه فترة تدريبية من خلال مدرسة الثلاثين يوماً، فقد علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم: «فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤٌ صائم»، وفي رواية قال: «فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤٌ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين» (رواه البخاري)، وقال أيضاً: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (رواه البخاري).
وشهر رمضان فرصة لتغيير من جُبل على الشح والبخل والأنانية وحب الذات، وفقدان الشعور بالجسد الواحد والأمة الواحدة، فرمضان شهر تنمية الإحساس، يربي المسلم على الإحساس بالغير، وقد صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تُدخله على مسلم، يكشف عنه كُربةً، أو يقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً..» (صححه الألباني).
المسلم يتعلم منه الحلم والأناة بالصبر على الجوع والعطش والتعب ساعات طويلة
وتذكر أيها الحبيب أن:
– في الناس صائم لا يجد كسرة خبز، ولا مذقة لبن ولا تمرة.
– في الناس صائم لا يجد بيتاً يؤويه، ولا ملابس تستره، ولا غطاءً يدفئه.
وليكن قدوتك في الإنفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان «أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة» (رواه البخاري).
وشهر رمضان فرصة للتغيير لمن كان قليل الصبر سريع الغضب، يتعلم المسلم من رمضان الصبر والحلم والأناة، فأنت تصبر على الجوع والعطش والتعب والنصب ساعات طويلة، وفي هذا تدريب على الصبر تجاه تصرفات الناس وسوء أخلاقهم، فلا تغضب سريعاً، وهذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه رجل وقال: أوصني يا رسول الله، فرد عليه بكلمة واحدة، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تغضب»، فردد مراراً: «لا تغضب» (رواه البخاري)، وبيّن أن المسلم القوي ليس بالعضلات المفتولة ولا الشارب الطويل ولا البنيان الضخم، فقال صلى الله عليه وسلم: «ليس الشَّديد بالصُّرعة، إنما الشَّديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (متفق عليه).
فعلى المسلم أن يجعل شهر رمضان شهراً للتخلية عن جميع الصفات السلبية، وأن يجعله شهراً للتحلية بكل الصفات الإيجابية، ولن يحدث ذلك إلا في شهر الإرادة والتغيير.
______________________________________
(*) باحث في الشريعة والقانون.