الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، فالأصل أن يجتمع المسلمون في المدينة الواحدة أو الحي الواحد في صلاة واحدة للعيد، وقد كانت سُنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي العيد في الخلاء لجمع أكبر عدد من المسلمين في الصلاة حيث لا يستوعبهم المسجد.
ويأتي عيد الفطر لهذا العام في ظل جائحة كورونا التي فرضت الصلاة المتباعدة، وحدَّدت السلطات في بعض الدول حداً أقصى لعدد المصلين في المساجد؛ الأمر الذي لا يمكنهم معه الاجتماع لصلاة العيد مرة واحدة في مكان واحد، وأمام هذه الحال يجوز تكرار صلاة العيد في مساجد أوروبا وغيرها بعدد المرات التي تغطي عدد المصلين في المدينة، وذلك في وقت صلاة العيد للأدلة التالية:
1- القياس على تعدد الجمعة في المدينة الواحدة في الأحوال العادية بسبب الحاجة وكثرة الناس، فلو منعنا تعدد الجمع في المسجد الواحد مع وجود الحاجة، منعناه في المدينة الواحدة وهو ما لم يقل به أحد، وصلاة العيد أولى بالتكرار من صلاة الجمعة؛ لأنها سُنة عند جمهور الفقهاء إلا الحنفية والحنابلة، والجمعة فريضة.
القول بعدم جواز تكرير صلاة العيد في المسجد الواحد مع وجود الحاجة يفوت الكثير من المصالح المعتبرة، في مقدمتها مصلحة حفظ الدين وإظهار الشعائر
2- أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم لتكرير العيد في المسجد أو الخلاء لا يصح الاحتجاج به لعدم وجود سببه أو ما يقتضيه؛ حيث لم تكن هناك حاجة لذلك سواء الكثرة العددية، أو وجود الجائحة أو غير ذلك.
3- القول بعدم جواز تكرير صلاة العيد في المسجد الواحد مع وجود الحاجة يفوت الكثير من المصالح المعتبرة، في مقدمتها مصلحة حفظ الدين وإظهار الشعائر، كما يخل بمقصد الاجتماع وإظهار الفرحة بالعيد رغم الحاجة الشديدة إليها في ظل الاحتجار والبقاء الإلزامي في البيوت، كما يعرض حياة المصلين لخطر الإصابة بالعدوى للتزاحم على الصلاة الواحدة للعيد في المساجد.
4- ثبت أن علياً رضي الله عنه كان يخرج يوم العيد إلى المصلى ويستخلف على ضَعَفَةِ الناس أبا مسعود البدري فيصلي بهم، فقد عدَّد العيد رعاية لحاجة كبار السن، والحاجة إلى التكرير اليوم أشد لأنها عامة تشمل كل الناس بسبب الجائحة.
5- فرضت جائحة كورونا على المجتهدين توسيع دائرة الاجتهاد بقبول صورٍ للعبادة ما كانت لتقبل في الأحوال العادية كالصلاة المتباعدة وأحكام الجنائز والدفن، وذلك للحفاظ على الناس من خطر الإصابة وإقامة الشعائر قدر الإمكان، وتكرير صلاة العيد في المسجد الواحد أمرٌ حسن، لكثرة المقاصد والمصالح الكلية والجزئية، ولسنية صلاة العيد التي يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها.
ويجوز أن يقوم إمامٌ واحدٌ بخطبة وصلاة العيد أكثر من مرة، وهو ما يعرف عند الفقهاء بإمامة المتنفل للمفترض، فقد سُئل ابن تيمية عن: “رَجُلٍ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ، ثُمَّ حَضَرَ جَمَاعَةً أُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ إمَامًا فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ مَسْأَلَةُ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فَإِنَّ الْإِمَامَ كَانَ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ، فَإِذَا صَلَّى بِغَيْرِهِ إمَامًا فَهَذَا جَائِزٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْإِمَامُ هُوَ الْقَارِئُ، وَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ لِلْإِمَامَةِ دُونَهُمْ، فَفِعْلُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ حَسَنٌ”.
واستدل الشافعية ومن وافقهم بحدِيثُ جَابِرٍ: “كَانَ مُعَاذُ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ، ثُمَّ يَنْطَلِقُ إلَى قَوْمِهِ فَيُصَلِّيهَا بِهِمْ، هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ، وَلَهُمْ مَكْتُوبَةٌ”، فإن توفر إمامٌ لكل صلاة فهو أفضل؛ خروجاً من الخلاف، وجمعاً للكلمة، ورعايةً لمن يقلد رأياً آخر في المسألة.
والله تعالى أعلم.
______________________________
(*) رئيس لجنة الفتوى بألمانيا، الأمين العام المساعد للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.