المقاصد لغة: جمع مقصد، يقصد قصداً ومقصداً، والمقصد هو الغاية والوجهة، ومهما تعددت التعابير وتنوعت المصطلحات حول مفهوم المقاصد فهي تدل على معنى واحد، سواء عبرنا عن ذلك بمقاصد الشريعة، أم المصالح المرسلة، أم أسرار الشريعة، أم المعاني والحكم؛ ذلك أن كل هذه الكلمات في النهاية تشير إلى تصور معين، وهو أنه ما شرعه الله تعالى من الأحكام لعباده إنما يستهدف أولاً تحقيق المصالح والمنافع البشرية؛ فالله تعالى هو الغني الصمد، ليس بحاجة إلينا بشيء.
يعرّف الإمام الشاطبي المقصد الشرعي من وضع الشريعة بأنه إخراج المكلف من داعية هواه حتـى يكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبد لله اضطراراً؛ فهذه الشريعة المعصومة ليست تكاليفها موضوعة حيثما اتفق، لمجرد إدخال الناس تحت سلطة الدين؛ بل وضعت لتحقيق مقاصد الشارع في قيام مصالحهم في الدنيا والدين معاً.
ويبرز الإمام الغزالي مقاصد الشريعة بصورة تفصيلية بقوله: «لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم؛ فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة».
كما يبرز معرفة المصلحة الحقيقية وطريقة الوصول إليها بقوله: «لأننا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسُّنة والإجماع، فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود ومهمّ من الكتاب والسُّنة والإجماع، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع، فهي باطلة مطروحة، ومن صار إليها فقد شرّع».
كما يبين حقيقة ومصدر هذه المقاصد الخمسة بقوله: «وكون هذه المعاني مقصودة، فقد عرفت لا بدليل واحد، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسُّنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات، وتسمى لذلك مصلحة مرسلة»، وأكد الشاطبي ذلك بقوله: «اتفقت الأمة -بل سائر الملل- على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت ذلك بدليل معين، ولا شهد أصل معين برجوعها إليه، بل عُلمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد».
وقد اعتمد الشاطبي المقاصد الخمسة التي أقرها الإمام الغزالي، دون اهتمام بترتيبها وفقاً لأولويات معينة، وإنما اهتم اهتماماً تفصيلياً بالمدارج الثلاثة التي تسهم في تحقيق المقاصد التي تناولها الإمام الغزالي، والجويني، ممثلة في الضروريات والحاجيات والتحسينيات، ووضع تعريفاً للمقاصد بصورة دقيقة، حيث عرفها بأنها: «ما يرجع إليه قيام حياة الإنسان وتمام عيشه، ونيل ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق».
مقاصد “الاقتصاد الإسلامي”
ونظراً لأن مقاصد الشريعة تعكس غاياتها ممثلة في تحقيق المصالح ودرء المفاسد في الدين والدنيا، ولما كان علم الاقتصاد الإسلامي منبعه الشريعة الغراء، ويعني: العلم الذي يوفق بين حاجات الأفراد المادية والروحية وما استخلفهم الله تعالى فيه من موارد وفقاً لقيم وضوابط ومقاصد الشريعة لتحقيق الرفاه في الدنيا والآخرة؛ فإنه يمكن تعريف مقاصد علم الاقتصاد الإسلامي بأنها: المعاني والحكم والأسرار والغايات التي أرادها الشارع الحكيم في الاقتصاد، لتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة.
وطبيعة علم الاقتصاد الإسلامي وما يفرزه من قضايا مستجدة تتطلب وضع مقاصد تناسبه بصورة تربط العصر بالنص، دون الاقتصار على ما ورد من مقاصد في المصنفات القديمة المتداولة، مع أهمية البناء عليها في الوقت نفسه، وكذلك أهمية التأكيد على دور العقل في التوصل للمقاصد وفهمها، وقد بيَّن الشاطبي أن أدلة العقل لا تعمل وحدها، بل متضامنة مع أدلة الشرع وشريكة له، والعقل إنما ينظر من وراء الشرع، كما ذكر العز بن عبدالسلام أن «معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل وذلك في معظم الشرائع».
والمقصد العام لعلم الاقتصاد الإسلامي واضح من تعريفنا لمقاصده، وكذلك من تعريفنا لعلم الاقتصاد الإسلامي نفسه؛ فهذا المقصد يتمثل في تحقيق مصالح الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، أو بمعنى آخر تحقيق الرفاه للإنسان في الدنيا والآخرة، ويراعي هذا المقصد العام الجوانب المادية والروحية معاً، بما يحقق السعادة للإنسان في الدارين، وهو نواة تنطلق منه مجموعة من المقاصد الكلية الحاكمة لعلم الاقتصاد الإسلامي، أو بمعنى آخر المقاصد الاقتصادية الإسلامية التي تتمثل برأينا في مقاصد خمسة، هي: الاستخلاف، وحفظ المال وتنميته، والتنمية الاقتصادية، والتنمية الاجتماعية، والعدل.
أولاً: مقصد الاستخلاف:
خلق الله تعالى الإنسان واستخلفه في الأرض، لتحقيق العبودية الخالصة لله سبحانه، وتعمير الأرض بالقسط والعدل، ومن ثم فإن تحقيق مهمة الاستخلاف من المقاصد التي يسعى علم الاقتصاد الإسلامي لتحقيقها، من خلال ما هيَّأه الله تعالى للإنسان من مقومات لتحقيق تلك المهمة؛ فقد وهب الله تعالى الإنسان نعمة العقل والحواس والملكات التي يستخدمها للتعرف على الأرض وما فيها وما عليها، وتسخيرها بكلِّ ما يحقِّق الغاية من وجوده، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 30)، وقال جلَّ شأنه: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود: 61)، وقال سبحانه: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ (الأنعام: 165)، وقال عز وجل: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ (يونس: 14).
وعن أبي سعيد الخُدْريّ رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الدنيا حُلْوة خَضِرَةٌ، وإنَّ الله مستخلفُكم فيها فينظر كيف تعملون» (رواه مسلم).
ومقتضى الاستخلاف أن المال مال الله، والإنسان مستخلف فيه وفقاً لإرادة المالك الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى، فالله تعالى يقول: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾ (طه: 6)، ويقول سبحانه: ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ (النور: 33).
لقد استخلف الله عز وجل الإنسان في الأرض من أجل عمارتها، والاستفادة من مواردها وتنميتها واستثمارها بما يحقق النفع له ولمجتمعه، والمسلم يعتقد اعتقاداً جازماً أن ما لديه من مال ليس له حق التصرف المطلق فيه، وملكيته له هي ملكية حق الانتفاع به في إطار الحدود المرسومة له بصفته وكيلاً أو وديعاً عن المالك الحقيقي للمال وهو الله جل شأنه، وبهذا يحكم انتفاعه بالمال كسباً وإنفاقاً تنفيذ أوامر الله تعالى فيه، وتحقيق النظام الذي أمر به، مع تحمل تبعة المسؤولية عن ذلك أمام الله عز وجل.
وبذلك لا يحيد المسلم عن تحقيق إرادة الشارع من مقصد الاستخلاف في المال، ويكون الاستخلاف ضماناً لتوجيه المال واستثماره فيما يعود بالنفع عليه وعلى المجتمع؛ فالمسلم لا يستثمر في حرام، أو منكر، أو ضرر، وهو يتخذ من المال وسيلة لا غاية، فهو يكسبه من حلال، وينفقه في حلال، ويؤدي حق الله فيه، ويعترف بفضل الله عليه فيه، ولا يتفاخر أو يستعلي أو يستقوي به، متمثلاً قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 77).
والاستخلاف في حقيقته يقرر أن الملكية الفردية تنمو في حضن القيم الإيمانية، فإذا كان من أسس الاقتصاد الإسلامي إقرار الملكية الفردية كأمر فطري، ودافع من دوافع العمل والاستثمار، فإن هذه الملكية ليست على إطلاقها، فهي لا تعطي مطلق التصرف للمالك بأن يتصرف بها كيفما يشاء، بل هي ملكية نظيفة تحكمها مجموعة من القيود، من أهمها: أنها ليست امتيازاً تضفي مقاييس مادية للاحترام، بل هي مسؤولية تعود بالنفع على الفرد والمجتمع، التي من مقتضياتها عدم الإضرار بالآخرين، والالتزام بالتعاليم الإسلامية المتعلقة بحفظ المال وإعمار الأرض.
إن مفهوم الاستخلاف في المال طريقه واضح الحدود والمعالم لا مكان فيه للطغيان أو الظلم أو الاستغلال، ومبتغاه تحقيق الحياة الطيبة للفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة، وإيمان المسلم بقضية الاستخلاف تربي في نفسه أن ماله وديعة مستردة كما هو نفسه وديعة مستردة، وأن الله تعالى استخلفه في هذا المال ليتصرف فيه وفقاً لإرادة مالك الملك وحده، وأنه سبحانه سائله ماذا هو فاعل في هذا المال؟ فالله تعالى يقول: ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ (الأعراف: 129)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم)، وبذلك ينفي الغرور عن قلبه، ويسعى إلى الاستفادة مما سخره الله في الكون من مقومات بتسخير عقله وعلمه، وجمع همه وإرادته، للانتفاع بهذه المقومات، واستثمار خيرها.