حتى منتصف الثمانينات كان غالبية جيلنا من أبناء الطبقة المتوسطة لا يرتادون المقاهي، وكان معظم روادها من الحرفيين أو من كبار السن، ومع زيادة وتيرة خصخصة القطاع العام ظهرت طبقة جديدة من رواد المقاهي في نهاية الثمانينيات ممن خرجوا بمعاش مبكر، وأصبح المقهى سلوى لهم عن جلوس لم يعتادوه في المنزل، وهروبا في العادة من مشاكل عائلية نشأت عن الوضع الجديد.
من ناحيتي لم أكن يوما من المدمنين على ارتياد المقاهي، ولم يسُقني الفضول يوما في صبا أو شباب للتعرف على طعم السجائر، وحتى الآن لا أعرف طعمها، ولست حتى من مدمني شرب القهوة، وكان قريبا من بيتنا عند نهاية شارع “إسحق النديم” في تقاطعه مع شارع “السبع بنات” بعد تجاوز تقاطع الترام على يمين القادم من المنشية مقهى عتيق يضع طاولة تِنِس (طاولة بنج بونج) أمامه على الرصيف ويؤجرها لهواة اللعبة؛ ولذلك كنت أتردد على هذا المقهى مع أصدقاء الصبا والشباب.
المقاهي في أحياء إسكندرية الشعبية، ومنها حي اللبان الذي ولدت ونشأت فيه، لها طابع مختلف عن المقاهي ذات الطابع السياحي على كورنيش البحر، والمقاهي ذات الطابع الأرستقراطي العريق مثل “بسترودس“.
وكانت وجوه رواد المقاهي الشعبية في حي اللبان لا تتبدل، نفس الوجوه في نفس الأماكن؛ لأن معظم رواد تلك المقاهي من أهل الحي أنفسهم، وبعض هذه المقاهي الشعبية كان فئويا؛ فبعضها تجمع لأماكن محددة من القادمين من الصعيد مثل الصوامعة، وبعضها للنوبيين، وهكذا.
كان من الرواد الدائمين لمقهى شارع “إسحق النديم” رجل نحيف الوجه، خط الزمان على وجهه النحيف أخاديد من التجاعيد، وترك له الزمان من ذكريات الصحة والشباب قليلاً من أسنان تعلوها صُفرة مشوبة بسواد، يجلس على كرسي خشبي قاعدته من الخوص المتشابك المفرغ، ساهمٌ زائغ البصر لا يتكلم إلا إذا بادره أحد بحديث، يسند وجهه على قبضة يده، ويده تستند على السطح الرخامي لطاولة مربعة صغيرة عتيقة.
بادره أحد أصدقائنا في جلسة صفاء قائلا: “عم “علي” لو أعطيتك مصباح علاء الدين، وفركته، وطلعلك الجِنْ وقالك: شبيك لبيك، عبدك وبين ايديك. ماذا تطلب منه.؟!”
كان رد “عم علي” مفاجئاً ومثيراً، قال :
“حقوله: يا ابن … سايبني العمر ده كله وجي تطلع لي وأنا باقي لي خطوة على القبر، ارجع يا ابن … للفانوس وغور من وشي، خلاص ما بقيتش عايز حاجة من الدنيا“.
استغرقنا في الضحك، بينما كان هو جادا غاية الجدية، وبدأَت ضحكاتنا تخفت مع شروده، ومع سقوط دمعة من عينيه تبدل الضحك إلى صمت، وفي لحظة الصمت تلك تردد في جنبات المقهى صوت تِتر نهاية مسلسل “أبو العلا البشري” بصوت “على الحجار“:
لو مش هتحلم معايا
مضطر أحلم بنفسي
لكني في الحلم حتى
عمري ما هاحلم لنفسي
لو كنت راح أفتش
عن منصب ولا جاه
وأصاحب الحذر
ده أنا أبقى ما أستحقش الحياة
وضحكة البشر
يا صاحبي يا صديقي
يا للي طريقك طريقي
ده أنا يوم ما أعيش لنفسي
ده يوم موتي الحقيقي.
عم “علي” استكثر على نفسه الحلم في آخر العمر، ربما سمع يوما بقول “إيليا أبو ماضي:
فما أسعد الإنسان في ساعة المنى * وما أجمل الأحلام في أول العمر
عم “علي” مثل كثير من الناس، رجل مات وهو على قيد الحياة، مات قبل أن يموت، مات يوم توقف عن الحلم.
الحلم في حد ذاته حياة، لحظة سعادة يظفر بها الإنسان حتى لو لم يتحقق الحلم:
منىً إن تكن حقاً تكن أطيب المنى * وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً