لقد كان اختيار الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الهجرةَ النبوية لتكون بداية التأريخ لدولة الإسلام الراشدة تخليدًا لأعظم حدث في تاريخ الإسلام، وتكريمًا للأمة المسلمة التي صنعته من خلال جيلها الأول.
فالمعروف أن الأمة -يومها- شاركت في صناعة حدث الهجرة، بدءاً بالقيادة المتمثلة في الرسول صلى الله عليه وسلم، وصاحبه المقرب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومرورًا بالأغنياء والفقراء، والضعفاء والأقوياء، وانتهاءً بالصبية والأطفال.. لقد تحرك الجميع -على اختلاف مواقعهم- في تضحيةٍ فريدة إلى المدينة المنورة من أجل إقامة المجتمع المسلم الأول الذي أصبح -فيما بعد- الدعامة الأساسية لدولة الإسلام الراشدة، والمصدر الأول لنشر العدل والحرية والمساواة والسلام في ربوع الأرض.
وكأن الخليفة الملهم عمر أراد بهذا القرار أن يربط أجيال الأمة المتعاقبة وجميع مكوناتها البشرية بمعاني الهجرة الأصيلة ومرتكزاتها الربانية، وأن يذكرهم مع بداية كل عام هجري أنّ أَوْلى ما يجب تخليده في ذاكرة تاريخ الأمة هو جهاد أجيالها وتضحياتهم، وأهم ما يُحتفى به هو المنجزات الجماعية التي يحققها أفراد الأمة مجتمعين.
لقد ظهر هذا المعنى العميق جليًا عندما فضّل عمر رضي الله عنه مقترح بداية التأريخ بالهجرة على المقترحات الأخرى التي كان من بينها اتخاذ يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، أو يوم مبعثه بداية للتأريخ الرسمي للدولة المسلمة؛ ذلك أن هذين الحدثين الأخيرين -مع عظمتهما وعمق أثرهما- فهما مرتبطان بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وحده، ولم تكن الأمة جزءًا فيهما حينها، أما حدث الهجرة فهو يمثل كفاح أمة مؤمنة ثابتة على دينها ومبادئها، وجهاد أتباع صادقين التفوا حول نبيهم، وضحوا من أجل رسالته، فكانوا أعظم دليل على نفحات مولده وثمرات بعثته.
لقد ذُكر أمام الفاروق عمر رضي الله عنه في مجلسه الاستشاري لتحديد بداية التأريخ الإسلامي أن الفُرس يؤرخون مع تولية كل ملك جديد، والروم يبدؤون تأريخهم من مولد الإسكندر، فزاده ذلك إصرارًا على أن يكون قراره شامة وضّاءة للأمة، ومَعْلمًا حضاريًا تلتف الأجيال حوله في كل عام، فتفتخر بأمجادها وتُقيّم واقعها، وتحدد مستقبلها وفق منهج الهجرة النبوية وعلى خطوات الجيل الرباني الأول.
إن أعظم ما يميز الأمة الإسلامية الأولى التي صنعت حدث الهجرة أنها كانت تمثيلاً واقعيًا للحق الأبلج، وكانت هجرتها انطلاقة فارقة بين الحق والباطل في صمود عجيب، يدفعه الإيمان بالمبادئ الربانية والإصرار على نشرها، ولقد كان ذلك من أهم الأسباب التي صرح بها الخليفة عمر رضي الله عنه عند قراره، فقد رُوي أنه قال: “بل نؤرخ بالهجرة، فإن الهجرة فرق بين الحق والباطل” (ابن الأثير، الكامل في التاريخ)، وكأن الخليفة المُلْهَم يريد أن يلفت انتباه الأمة -من خلال أجيالها- إلى الدرس الأعظم في هذه الهجرة، وهو حتمية الصراع بين أمة الحق والباطل وضرورة التدافع بينهما من خلال صمود الأمة على مبادئها حتى يميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض.
لقد كانت هجرة الأمة مع رسولها مرحلة فاصلة بين الحق والباطل، فبعد 13 عامًا من انتفاش الباطل واستعلائه على أتباع الحق ظلمًا وطغيانًا تحول الحق إلى وطن منيف أليف، قصده المصلحون والصالحون، وتحولت الأمة المسلمة من طائفة مضطهدة إلى أمة فتية تمتلك سيادتها، وتقود بدينها تحت إمرة رسولها، فانتقلت بالحق من نصر إلى تمكين، فقلبت موازين القوى، وبعثرت حسابات الطغاة، يقول تعالى: (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال: 26).
ولأهمية التحرك الجماعي في الهجرة النبوية، بيّن القرآن الكريم أن شرف الانتساب إليها مرهون بإعلان الانتماء الصريح إلى أمة الحق والزود عنها مع مفارقة حاسمة للباطل لا تسمح بالمداهنة ولا النفاق، يقول تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ) (الأنفال: 72)، وظلت الهجرة إلى المدينة المنورة شرطًا لنيل شرف الانتماء إلى أمة الحق الأولى -بكل مميزاتها ومفاخرها- حتى فتح مكة المكرمة الذي صدع فيه أفراد الأمة مع نبيها صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء،81)، فانقطعت هجرة المكان الحسية مع استكمال بنيان الأمة في عهد نبيها، ولكن بقيت مفهومًا وقيمًا وروحًا تبعث الأمل، وتقيم المسار في أمة الإسلام، التي ستبقى دائماً في هجرة بالحق والدفاع عنه على مدار التاريخ؛ ما دام الباطل مصرًا على مجابهة الحق وطمس معالم الهداية، فلتكن الهجرة هي البريق الذي يضيء طريق المصلحين من أبناء هذه الأمة حتى يأتي وعد الله.
____________________
(*) أستاذ جامعي.