كانت الهجرة إحدى سمات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فليس النبي محمد صلى الله عليه وسلم أول من هاجر، فعدد من الأنبياء اضطر إلى الهجرة، كما اضطر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أشهر هجرات الأنبياء هجرة إبراهيم عليه السلام أكثر من مرة، وقد أطلق على نفسه المهاجر إلى الله، كما قال سبحانه: (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (العنكبوت: 26).
كما هاجر موسى عليه السلام من مصر إلى مدين، كما قال الله تعالى: (وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ {20} فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (القصص).
ومن هجرات الأنبياء هجرة نوح عليه السلام بسفينته بعد غرق أهله، كما قال تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود: 44).
كما هاجر عيسى عليه السلام مع أمه مريم وهو صغير إلى أرض مصر؛ خوفاً عليه، وهو الذي كان يعيش في فلسطين، ثم عاد إلى مقر سكنه بيت لحم مرة أخرى بعد عدة سنوات.
ويلاحظ في غالب هجرات الأنبياء أنها كانت فراراً بالدين والنفس، فقد هاجر إبراهيم عليه السلام بعد رفض قومه الإيمان بالله تعالى، وشدة إيذائه، وهاجر موسى عليه السلام بعدما جاء الرجل يُعلمه بأن فرعون وملأه يأتمرون به ليقتلوه ونصحه قائلاً: (يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ {20} فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
كما هاجرت مريم بابنها عيسى عليه السلام خوفاً عليه من بطش اليهود.
كما كان التهديد بالهجرة والطرد من الأوطان حاصلاً مع أنبياء آخرين، فقد هدد شعيب عليه السلام بالطرد من وطنه، كما حكى القرآن ذلك بقوله: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) (الأعراف: 88)، وهُدد لوط عليه السلام أيضاً بالطرد من وطنه، كما قص القرآن ذلك على لسان قومه في قوله تعالى: (قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) (الشعراء: 167).
على أن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن خوفاً من بطش قومه، فقد بقي فيهم بعد النبوة ثلاثة عشر عاماً، وتحمل البطش والأذى، لكنها كانت هجرة وفتحاً؛ لنشر الدعوة إلى الله تعالى، وفتح البلاد وقلوب العباد بتوحيد الله سبحانه وتعالى.
والهجرة حفاظاً على النفس من المقاصد المشروعة، وقد عاب الله على أقوام بقوا حتى فتنوا في دينهم، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً {97} إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (النساء)، كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة بعد اضطهادهم.
ومعنى الهجرة باق بمقاصده في القرآن الكريم، فقد يهاجر المرء خوفاً على نفسه من بطش أو إيذاء، وهذا تحقيق لمقصد حفظ النفس، وقد يهاجر خوفاً من الفتنة في الدين، وهذا تحقيق لمقصد حفظ الدين، وقد يهاجر طلباً لحياة أحسن، أو لتعليم أو نحوه مما هو مشروع في دين الله، مطلوب في دنيا الناس.