هل تشهد تونس نهاية “الربيع العربي”، كما شهدت بدايته؟ وهل ينطفئ وهج التغيير في قصبتها؟ وهل تموت أشوق الحرية، بعد عقد من آمال التغيير والإصلاح؟ أسئلة تفرض نفسها عقب انقلاب الرئيس قيس سعيّد على الديمقراطية، في 25 يوليو 2021م.
“ديمقراطية بلا إسلاميين”، يبدو أن هذا رهان سعيّد من انقلابه، الذي أيدته كثير من القوى اليسارية صراحة، وصمتت أخرى مختبئة وراء مواقف ضبابية، وخرجت مظاهرات مبتهجة بإحباط التجربة الديمقراطية، وتعطيل البرلمان، وإمساك سعيّد وحفنة قليلة غير معروفة بالدولة التونسية، مشهد أعاد للذاكرة الخبرة الدكتاتورية في عهدي الحبيب بورقيبة، وزين العابدين بن علي، التي امتدت من الاستقلال في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي حتى رحيل بن علي، في 14 يناير 2011م.
العلمانية التونسية ترفع شعارات التوافق والحياد لكن الواقع يثبت أنها تتمتع بأكبر درجات الإقصاء للمخالفين
العلمانية التونسية إقصائية، غير متسامحة، لا تؤمن بتحصل مخالفها على الحرية، كما أنها لا تحترم الاحتكام إلى صندوق الاقتراع، وهذا الإقصاء محبط لأي تجربة ديمقراطية، خاصة إذا كان هؤلاء الإقصائيون يمسكون بدولاب الدولة، ومفاتيح القوة المتمثلة في الجيش والقوى الأمنية، ناهيك عن السيطرة على المجالات الاقتصادية، وتلقي الدعم السياسي والمالي الإقليمي والدولي.
عقب الانقلاب، صرح الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي، قائلاً: “ما نراه الآن هو خاتمة تصفية “الربيع العربي”.. هذا الرئيس لم يأخذ هذه القرارات إلا ووراءه قوى تحميه وتحرضه”، مؤكداً أنه حذر حركة “النهضة” من إستراتيجية “تغذية التمساح” التي اتبعها الرئيس سعيّد، التي انتهت بأكل “النهضة” وتونس معاً، فالتمساح يمسك بوسط فريسته، ثم يدور بها بشكل طولي في الماء ويقطعها أجزاء صغيرة ثم يبتلعها.
فقد أمسك هؤلاء الإقصائيون بالربيع التونسي، وأدخلوه في أزمات ومخاوف لا تنتهي، وورطوه في معارك جانبية لا تتوقف، ثم قاموا بتجزئة القوى التي نهض عليها الربيع، لتأتي مرحلة الابتلاع بعد عشر سنوات، ومن هنا يمكن فهم الشغب الذي عانى منه الربيع في تونس من إثارة النقاشات حول مساواة المرأة بالرجل في الإرث، والضجيج الذي افتعلته النائبة عبير موسي في البرلمان، ليعود المشهد إلى ما كان عليه في السابق، من تنافس بين القوى العلمانية بأطيافها المختلفة للهيمنة على السلطة، مع ثبات القيم العليا الحاكمة للنظام السياسي.
توافر للعلمانية بتونس ما لم يتوافر لغيرها من الدعم حتى وصل الأمر للتنصل من صيام رمضان!
فمنذ ظهور العلمانية وهي تطرح نفسها بديلاً يحمي المجتمعات من أخطار ومعارك أهل الأديان، فأشاعت العلمانية أنها تحمي الاعتقاد وتضمن له ممارساته، وتخلق نوعاً من التوازن بين الأفراد على قاعدة المواطنة، وأنها لن تحقق ذلك إلا بالفصل الصارم بين الدين والسياسة، رغم أن الدراسة العميقة للكاتبة البريطانية الشهيرة كارين أرمسترونج بعنوان “حقول الدم” تؤكد أن العلمانية أيديولوجياً شديدة التعصب والانغلاق، بل والعنف.
ويلاحظ أن العلمانية في التجربة التونسية ترفع شعاراتها حول التوافق والحياد أمام المواطنين والأديان، لكن الواقع الحقيقي أنها تتمتع بأكبر درجات الإقصاء والنبذ للمخالفين، خاصة إذا كانوا إسلاميين، فرغم أن “الاتحاد العام للشغل” في تونس له سوابق في معارضة بعض توجهات الدولة وسياساتها في فترات سابقة، فإنه كان مع انقلاب سعيّد، وكان صوته خافتاً عقب الانقلاب، وتصريحات لا تعبر عن موقف مناهض للانقلاب على الديمقراطية، وكأن لسان حاله يقول لسعيّد: “حاول أن تنجز مهمتك في إقصاء الإسلاميين في أسرع وقت”.
وحتى “الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان”، التي حصلت على جائزة “نوبل” للسلام لمساعدتها تونس في حل أزمة سياسية في عام 2013م، صرح كاتبها العام بشير العبيدي أن سعيّداً لم يخرج عن النظام الجمهوري ولا على الدستور، وأن ما قام به ليس انقلاباً، وأن مبالغة سعيّد بتجميع السلطات في يديه ليست مبرراً لـتجييش الشارع ضده.
وإذا كان هذا رأي الرابطة الحاصلة على جائزة “نوبل” للسلام، فللقارئ أن يدرك طبيعة الروح الإقصائية العلمانية للقوى السياسية الأخرى، خاصة المستفيدة من السلطة، والمتهمة بالفساد، ففي تلك الحالة يلجأ الإقصاء إلى الغطرسة والعنف.
أهم ما ترتكن إليه الإقصائية التونسية “الشيطنة” وتحويل المخالف إلى عدو يجب القضاء عليه
وقد توافرت للعلمانية في تونس ما لم يتوافر لغيرها من الدعم والتمكين؛ فساندها الرئيس الحبيب بورقيبة بترسانة من القوانين، فحارب التعليم الديني المتمثل في الزيتونة، وأغلق جامعتها، والكثير من معاهدها، وقلص حضور الزيتونيين في المجال الثقافي والاجتماعي، ووصل الأمر إلى محاولة التنصل من صيام رمضان، تحت مزاعم تعطيل الإنتاج، وسخر من القرآن الكريم، قائلاً: “من يصدق أن عصا موسى يمكن أن تصبح أفعى؟!”، وأرغم المسلمات على خلع الحجاب، في أغسطس 1957م، وألغى تعدد الزوجات، واحتوى قانون الأحوال الشخصية الصادر عام 1956م على الكثير من المخالفات الدينية والإقصائية، وهو ما أعيد إنتاجه بعد أكثر من سبعين عاماً في العام 2018م عندما دعم الرئيس الباجي السبسي المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث.
وأقصت علمانية بورقيبة علماء الزيتونة من البلاد، فأجبرت كبار الشيوخ، مثل الشيخ محمد النيفر على الهجرة، وأعدمت آخرين مثل الشيخ أحمد الرحموني الذي نفذ فيه حكم الإعدام عام 1963م، والشيخ عبدالعزيز العكرمي الذي لم تتسلم أسرته رفاته لدفنه في مقابرها إلا في العام 2013م، رغم إعدامه قبل ستين عاماً، ولم تقف العلمانية الإقصائية عند إنهاء استقلال المؤسسة الدينية، ولكن تدخلت في الشأن الديني الخاص للأفراد، فحرمت الحجاب، وحرمت المحجبات من شغل الوظائف العامة.
الشيطنة طريق الإقصاء
ثقافة الإقصاء لا تتأسس إلا في مناخ سياسي وفكري وثقافي يرفض التعدد ولا يقبل بالاختلاف، والحقيقة أن أساليب العلمانية الإقصائية في تونس أصبحت أكثر انكشافاً، إذ إن أهم ما ترتكن إليه تلك الروح الإقصائية هو “الشيطنة”، وتحويل المخالف إلى عدو يجب مواجهته والقضاء عليه، وهو ما تم ممارسته مع الدين، والزيتونة، والإسلاميين، والثورات، والديمقراطية.
في كتابه “صنع العدو: كيف تقتل بضمير مرتاح؟” للباحث الفرنسي بيار كونيسا، اقتراب نظري من آليات الشيطنة، وأهم ما يؤكده كونيسا هو أن العدو فكرة مصطنعة، وصناعته تبرر مواجهته، والقضاء عليه، فالجندي لا يقتل بضمير مرتاح حتى يؤمن أن من يواجهه هو العدو.
“الربيع العربي” أصبح ذكرى مكروهة وصارت القوى التي تدافع عنه منبوذة بل تحولت الديمقراطية إلى ممارسة ممنوعة
ومن هنا، قامت العلمانية الإقصائية بتصنيع “العدو الزيتوني” طيلة سنوات بورقيبة، واستخدمت مخرجات تلك الصناعة الأثيمة في محاربة الإسلام ذاته، فوصفت علماء الزيتونة بالرجعية والتخلف، وعندما سعت الحركة الإسلامية المتمثلة في “حركة الاتجاه الإسلامي” لملء الفراغ الذي تركه إقصاء الزيتونة من الحياة الثقافية والدينية، تم شيطنة الحركة الإسلامية، واتهامها بالتطرف والإرهاب، ولجأ بورقيبة، ثم زين العابدين بن علي، إلى العنف لقمعها، لكن تلك الفترة كانت جهود بورقيبة أفرزت طبقة من العلمانية الإقصائية أخذت تشيطن الإسلاميين، وترفض وجودهم في الواقع التونسي.
وبعد الثورة التونسية، تم شيطنة “الربيع العربي” طيلة عشر سنين، ولعل من نتائج تلك الشيطنة أن حدثت تحولات من التأييد إلى النفور من “الربيع العربي”، وهو ما أكده استطلاع للرأي لـ”المعهد الجمهوري الدولي”، عام 2020م، أشار إلى أن 87% من التونسيين يعتقدون أن تونس تسير بالاتجاه الخاطئ، وأن 75% من التونسيين يعتقدون أن الحكومة لم تنجز شيئاً، وأن الفساد له تأثير سلبي على 78% من المواطنين.
وفي دراسة أخرى صادرة عن معهد “بروكينجز” بالدوحة للباحثة مونيكا ماركس، عام 2014م، بعنوان “أي أسلوب اتبعته النهضة أثناء عملية صياغة الدستور التونسي؟”، أكدت أن “النهضة” واجهت عملية تشويه مستمرة، ومحاولة بناء صورة سلبية عنها تكفل تبرير إقصائها، وشارك في بناء هذه الصورة أطياف مختلفة من المجتمع التونسي من محامين وجمعيات حقوقية، تقول مونيكا: “بالنسبة للعديد من أنصار “النهضة”، لم تكن ثورة 2011م من أجل تحقيق الديمقراطية فحسب، بل أيضاً من أجل الحرية الدينية”، فقد كان أعضاء “النهضة” هم ضحايا الأنظمة السابقة، لذا نصحتهم بأن يتخطوا عقلية المراقبة، وعدم اعتماد سلوك دفاعي في حركتهم السياسية.
أصبح “الربيع العربي” ذكرى مكروهة، وصارت القوى التي تدافع عنه محل نبذ وإقصاء، بل تحولت الديمقراطية إلى ممارسة ممنوعة، فإستراتيجية صناعة العدو وشيطنته، في الحال التونسية، كان هدفها إقصاء الإسلاميين باعتبارهم إحدى أهم القوى التي أنتجها “الربيع العربي”.