لم يكن الأردن منذ استقلاله دولة ونظام حكم دون معارضة حقيقية ومؤثرة، النظام الأردني كان يتعايش مع المعارضة إلى الحد الذي لا تشكل به خطراً على وجود النظام واستقراره، الأردن كان حريصاً على خلق المعارضات المنظمة لتكون البوابة التي يعبر بها الشارع عن مطالبه، ولتبقى البوابة التي يمكن الحوار مع الشارع من خلالها.
تاريخ المعارضة الأردنية لنظام الحكم
بعد قيام إمارة شرق الأردن وقيام نظام الحكم الملكي، قامت أول حالة معارضة أو ثورة أو تمرد على نظام الحكم الهاشمي على يد قائد الحكومة المحلية في لواء الكورة شمال المملكة في إربد الشيخ كليب الشريدة الذي كان يملك ألف فارس (بارودي) مسلح، لكن سرعان ما تم إخماد تمرد أو ثورة الكورة وعاد الشيخ كليب الشريدة جزءاً من النظام، وليكون ولده جزءاً من مجلس الوصاية على العرش قبل أن يتسلم الملك حسين يرحمه الله سلطاته الدستورية.
واجه الملك الحسين، ثالث ملك للملكة الأردنية الهاشمية، محاولة انقلاب من القوى اليسارية في عام 1957م بعد اختلاف رئيس الحكومة المنتخب سليمان النابلسي مع الملك حسين حول الانضمام إلى إعلان أيزنهاور لمواجهة المد السوفييتي، الذي انقسم بسببه نظام الحكم بين ملك يرغب بالانضمام إلى المعسكر الغربي ورئيس حكومة يرغب بالانضمام إلى المعسكر الشرقي، انتهى هذا الانقسام بمحاولة انقلاب فاشلة هرب على إثرها قائد الجيش ومجموعة من الضباط إلى دول الجوار العربي المحسوبة على المعسكر الشرقي، وتم حل أول حكومة برلمانية يسارية منتخبة وحل البرلمان وإعلان الأحكام العرفية لتستمر حالة الأحكام العرفية إلى عام 1989م، وقبل ذلك قام الملك حسين بالعفو عن الضباط وإعادة كثير منهم إلى أجهزة الدولة وتسليمهم أعلى المناصب السيادية في الدولة بما فيها قيادة جهاز المخابرات العامة.
قامت سياسة النظام الأردني الداخلية بعد أحداث عام 1957م على فكرة إضعاف كل الأحزاب والقوى اليسارية والتضييق عليها، وإيجاد قوة أخرى ممثلة بجماعة الإخوان المسلمين ودعمهم ليكونوا القوة التي تمثل الشارع، بقيت هذه القوة في حالة صعود وتمدد في الشارع الأردني ليبدأ الخلاف السياسي معها بعد معاهدة السلام بين الأردن والكيان الصهيوني في عام 1994م، لتصل العلاقات إلى مرحلة القطيعة بعد “الربيع العربي” الذي اتهم النظام جماعة الإخوان المسلمين بانها تريد الانقلاب على الحكم من خلال ممارساتها على الأرض وشعاراتها في “الربيع العربي”، وتم قمعها وتحجيمها بعد ذلك.
ترتب على إضعاف جماعة الإخوان في الأردن وتجريدها من كل أذرع قوتها السياسية والخيرية والدينية إلى قيام حالات معارضة متشعبة تعتمد على القبائل الأردنية التي كانت تمثل الحاضنة الشعبية لنظام الحكم في الأردن.
معارضة القبائل الأردنية
بعد أحداث السبعين من القرن الماضي وإعادة سيطرة النظام الأردني على الأراضي الأردنية وهزيمة الفصائل الفلسطينية التي حاولت السيطرة والانقلاب على نظام الحكم في الأردن، تم فسح المجال من قبل النظام أمام القبائل الأردنية للسيطرة على جميع مؤسسات الدولة الأردنية، فتم التوسع في التوظيف الحكومي من أبناء القبائل الأردنية، وأصبحت المؤسسات الأمنية المشكَّلة من القبائل الأردنية تمثل الحاضن الشعبي لنظام الحكم والملكية، واستمر هذا الوضع لعدة عقود من الزمان.
مع مطلع القرن الحالي وتحول النظام الأردني من النظام الريعي إلى النظام الإنتاجي، ولانخفاض المساعدات الخارجية التي يتلقاها الأردن بعد سقوط النظام العراقي، وانتشار التعليم الجامعي في أوساط التسعينيات بشكل كبير بين أبناء القبائل، وعجز الدولة الأردنية عن الإنفاق والتوظيف الحكومي وتضخم الجهاز الوظيفي، بدأت ترتفع نسب البطالة إلى مستويات كبيرة وفي أوساط أبناء القبائل الأردنية التي كانت تعتمد على الوظائف الحكومية إلى جانب الزراعة وتربية المواشي، ترافق كل ذلك مع برنامج الخصخصة المثير للجدل الذي يتم الحديث عن وجود فساد ألحق ضرراً كبيراً في قدرة الدولة الاقتصادية، وانعكس ذلك على فرض مزيد من الضرائب لتعويض الميزانية عن المخصصات التي كانت تدخل إلى خزينة الدولة من تلك المؤسسات التي تمت خصخصتها، ترتب على كل تلك الأوضاع الاقتصادية نشوء حالات من الحراك القبلي في مدن الأطراف وخصوصاً مدن الجنوب تطالب بالتشغيل والتوظيف حتى وصلت إلى مرحلة المسيرات الشبابية المنظمة الراجلة إلى عمَّان والاعتصام أمام الديوان الملكي للمطالبة بالتشغيل.
ترافق مع كل هذه الحراكات والمطالبات القبلية حالات قمع لبعض الأصوات المعارضة من بين أبناء القبائل بتهم تقويض نظام الحكم وإطالة اللسان على الملك، وما أن انتهت محكومياتهم وخروجهم من السجن حتى وجدناهم في العواصم الغربية في حالة لجوء سياسي، كل تلك التحولات الاقتصادية كانت تترافق مع التطور التكنولوجي، ونشوء مواقع التواصل الاجتماعي وتحولها إلى منابر فردية للمعارضة ومهاجمة نظام الحكم في الأردن لنشهد أول حالة معارضة أردنية خارجية منظمة تحت عنوان ملتقى أبناء الأردن في المهجر.
معارضة بلا سقف ولا رأس
المعارضة الأردنية الجديدة غير النمطية تمتاز بأنها معارضة بلا رأس، فلا يوجد لها منظر أو تنظيم يحكمها باستثناء جزء من المعارضة الخارجية، كما أنها معارضة بلا برنامج ولا سقف، وهي معارضة تحمل الشيء ونقيضه في آن واحد، في الوقت الذي تطالب به بعض المعارضة الجديدة بإصلاحات سياسية ووضع دستور جديد، فإن بعض هذه المعارضة يطالب بإسقاط النظام الحاكم، فيما تنصب المطالبات والحراك القبلي على مكافحة الفساد والمطالبة بالتشغيل والتوظيف.
يحاول النظام الأردني احتواء هذه المعارضة من خلال مصالحات بعيدة عن الأضواء مع بعض رموز المعارضة الخارجية التي نجح في بعضها، لكنه يعجز تمام العجز في احتواء المعارضات القبلية غير النمطية التي تطالب بالتشغيل والتوظيف، وترى أن كل مشكلة الأردن هي بالفساد والخصخصة دون المطالبة بالإصلاح السياسي.
فيما عنصر الثقة شبه مفقود ما بين النظام الأردني والمعارضات الكلاسيكية الضعيفة، فيما يتعلق بخارطة الإصلاح السياسي التي تم تقديمها كخطة عشرية للتدرج في الإصلاح السياسي المنشود والتحول نحو الحكومة البرلمانية، إذ تواجه خارطة الطريق الرسمية للإصلاح السياسي عدم ثقة بأوساط المعارضة بناء على تجارب سابقة فيما يتعلق بخطط الإصلاح التي حفظت في الأدراج، في ذات الوقت لا ترى المعارضة أن السقف الذي صنعته اللجنة الملكية قادر على بناء حياة سياسية قادرة على بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، فالنموذج المنتظر بعد عقد من الزمان سيكون منزوع الدسم السياسي ولن يغير في الحياة السياسية كثيراً.
يبدو أن المعارضة الأردنية الجديدة تعمل مع النظام الأردني كـ”الأفعى الأسطورة” التي قطع رأسها فتناسل من جسدها عشرات الرؤوس التي يصعب احتواؤها ومطاردتها، حالة الفوضوية في المعارضة الأردنية ستجر البلاد إلى ما لا يحمد عقباه، فالنظام يواجه معارضة بلا رأس ولا سقف ولا تملك الخبرات في المعارضة وليس لديها خطوط حمراء، معارضة لا تعرف متى تتقدم ولا متى تتأخر؛ مما يجعل شبح وقوع الفوضى أمراً محتملاً عند أي منعطف سياسي.
النظام الأردني اليوم مطالب بإنهاء هذه المعارضة الفوضوية المقلقة بأسلوب ديمقراطي حضاري، تلك المعارضة التي لا يمكن احتواؤها أو التفاهم معها وكل ما يمكن أن يفعله النظام للخلاص من هذه الحالة المقلقة الذهاب إلى حالة إصلاح سياسي شامل وجاد وناجز ينتقل بالحياة السياسية إلى حكومة برلمانية حقيقية تتحمل مسؤولياتها أمام الشعب وطموحاته بأسرع وقت ممكن دون الانتظار عقد من الزمان، إصلاح سياسي قادر على إعادة المعارضة من حالة الفوضوية إلى حالة النخبوية السياسية العاقلة التي يمكن التعاون والتفاهم معها ومشاركتها الحقيقية بالحكم.