يُقْدم أطفال سوريون مهجرون على إنهاء حياتهم، بينما يكرر آخرون محاولاتهم في بيئة يصعب عليهم احتمالها أو التكيف مع آلامها، خاصة مع تفشي الفقر وما يفرضه على العائلات من جري وراء لقمة عيش دون الانتباه لأوجاع تنمو في صمت.
– حاولت الطفلة السورية سهيلة الجبار الانتحار ثلاث مرات منذ تزويجها لرجل أربعيني في فبراير 2020، هربا من معاناتها في الاعتناء بأبناء زوجها الذي يعنفها لفظيا وجسديا، ما دفعها إلى محاولة الطلاق لكن رفض أسرتها المهجرة في مخيم شمارخ في حلب جعل الفتاة ذات الستة عشر عاما تحاول الخلاص من حياتها بعدة وسائل، بدأت بشرب كمية كبيرة من الدواء، ثم نصبت مشنقة داخل خيمتها، لكن عمودها سقط وأفشل محاولتها، وفي 4 يونيو 2020 حاولت قطع أوتارها، وأنقذتها جارتها.
محاولات سهيلة المتكررة للانتحار تعكس جانبا من ظاهرة متفشية شمال غرب سورية ووصلت إلى مستويات خطيرة كما وصفتها منظمة أنقذوا الأطفال البريطانية، في تقريرها الصادر في 21 إبريل 2021، والذي يبين أن حالات الانتحار ارتفعت نهاية عام 2020 بنسبة 86٪ عن الأشهر الثلاثة الأولى من العام ذاته، 20% منها بين الأطفال، إذ سجلت المنظمة ما مجموعه 246 حالة انتحار و1748 محاولة، في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2020، وكان غالبية المنتحرين من بين النازحين وعددهم 187 حالة.
لماذا تضاعفت أعداد حالات انتحار الأطفال؟
“أدت الحرب وما رافقها من نزوح إلى زيادة نسب الفقر وضياع الترابط الأسري وغياب التعليم، وعمالة الأطفال الذين أصبح الكثير منهم أرباب أسر في ظل غياب المعيل الحقيقي بسبب الموت أو الاعتقال؛ ما أسفر عن تنامي ظاهرة الانتحار بين الأطفال السوريين في مخيمات النزوح”، بحسب الباحث النفسي بيرم جمعة الذي يعمل في منظمة إحياء الأمل في إدلب، مؤكدا أن الأرقام الحقيقية لحالات ومحاولات الانتحار أعلى بكثير مما هو معلن، لأن الكثير من الأسر تخشى الوصم نتيجة موت أحد أفرادها منتحرا وتخفي الأمر، لا سيما إن كان الأمر متعلقا بالفتيات القاصرات.
النتائج ذاتها خلص إليها مسح اجتماعي أجرته منظمة الصحة العالمية لفهم أسباب الانتحار شمال غرب سورية وتحديد الإجراءات الواجب اتخاذها، بمشاركة 534 طبيبا عاملا في مراكز الرعاية الصحية والمستشفيات، ومستشارين نفسيين بالإضافة إلى العاملين في مجال العنف القائم على النوع الاجتماعي، والذين ربطوا محاولات انتحار الأطفال السوريين شمال غرب سورية بالوضع المعيشي المأساوي الذي يعانيه الأطفال النازحون وأسرهم في مناطق القتال عموما، وفي منطقة إدلب على نحو خاص، حيث ينتشر الفقر وتنعدم فرص العمل ومصادر الدخل وينقطع الأطفال عن الدراسة ويتفشى العنف المنزلي وتكثر حالات الطلاق وزواج القاصرات.
وافتقد عدد كبير من الأطفال لطعم الاستقرار إذ هُجّروا مع عائلاتهم عدة مرات بحثا عن أمان مفقود، واستقروا في خيام مهلهلة ومبان شبه مدمرة، ومن بينهم فواز نجل حميدة الهواش، والذي قضى منتحرا صباح 19 مارس 2020 في مخيمات أطمة بريف إدلب، بعد ظروف معيشية قاسية مر بها ووالدته عقب طلاقها من والده، فلم تجد حلا للهروب من مرارة الفقر والحرمان الذي كانت تراه يوميا في عيني ابنها البالغ من العمر 13 عاما، سوى الزواج من رجل آخر يؤمن احتياجاتها، وبعد الزواج عاش فواز في خيمة ملاصقة لوالدته، لكن تعامله تغير معها كليا وأصبح قليلا ما يتحدث إليها، حتى جاء “صباح مؤلم”، دخلت خيمته ووجدته قد شنق نفسه بحبل كما تقول لـ”العربي الجديد“.
ويتوقع الباحث النفسي علي الهليل أن إطالة أمد الحرب واستمرار نظام الأسد بعمليات التهجير الممنهجة والقصف، سيؤدي إلى ازدياد حالات الانتحار بشكل عام في مختلف الفئات العمرية، لا سيما الأطفال، ويتحمل النظام المسؤولية الكبرى بعمليات انتحار الأطفال كونه المسبب الأول لعمليات النزوح وما نتج عنها من فقر مستند إلى الدعم المفتوح من روسيا وإيران بحربه المفتوحة على السوريين.
وتبين نتائج مسح منظمة الصحة العالمية، أن 24% من حالات الانتحار المسجلة كانت من المجتمع المضيف، و76% من المجتمع المهجر، بينما بلغت نسبة محاولات الانتحار بين أفراد المجتمع المضيف 13.5%، و86.5% بين أفراد المجتمع المهجر، من جميع الفئات العمرية. وكانت نسبة الذين حاولوا الانتحار من الفئة العمرية 12 إلى 15 عاما 3.11%، بينما بلغت 2.57% بين الأفراد ذوي 11 عاما أو أقل، وفقا لإجابات المشاركين في المسح.
قاصرات ينتحرن بسبب الزواج
ارتفع معدل زواج القاصرات من 7% قبل الثورة السورية ليصل إلى 30% عام 2015، واستمر في الارتفاع، بحسب تقرير للمركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية بعنوان التزويج القسري والعوامل المؤثرة على اتساع ظاهرة تزويج القاصرات السوريات، صدر في 18 أكتوبر عام 2018، ويبين أن نسبة تزويج القاصرات تزداد في تجمعات النازحين واللاجئين، وفي المناطق التي سيطرت عليها المعارضة المسلحة، بسبب الحصار الاقتصادي والفقر، والذي كان من نتائجه ازدياد ظاهرة تزويج القاصرات لحاملي السلاح لقدرتهم على الإعالة والحماية في هذه المناطق التي اعتمدت محاكم شرعية خاصة بها لتسجيل الزواج.
ويوضح جمعة من خلال ما يرصده في عمله أن أرباب الأسر في الشمال السوري باتوا يزوجون بناتهم لتخفيف الأعباء الاقتصادية، وأمام الواقع السيئ الذي قد تواجهه القاصر بعد زواجها بسبب العنف في بعض الحالات، والعمل كربة منزل بالرغم من صغر سنها وتعنت الأهل بعدم مساعدتها نظرا لخوفهم من طلاقها، وفقدانها لحنان الأم والأسرة في مرحلة الطفولة ما يدفعها للانتحار، كما حدث مع سهيلة الجبار، وهو ما يؤكده تقرير منظمة أنقذوا الأطفال الذي يصنف زواج الأطفال ضمن الأسباب التي أسهمت في رفع نسب الانتحار.
طرق الانتحار
اختلفت طرق الانتحار بين الأطفال من الجنسين شمال غرب سورية، وكان في مقدمتها تناول كميات مفرطة من الأدوية دفعة واحدة أو تناول حبوب غاز الفوسفين (فوسفيد الألمونيوم) السام، ويعزو الصيدلاني عبد الهادي الشحادة مالك صيدلية في مدينة حارم بإدلب، استخدام حبوب الغاز لانخفاض ثمنها وتوفرها في الأسواق وليس الصيدليات فقط.
ولجأ الأطفال إلى الانتحار شنقا كما في حال فواز والطفل محمد سليم العنجوكي البالغ من العمر 16 عاما، بعدما أصبح في وضع نفسي مزر عقب وفاة والدته وعدم وجود من يعتني به حتى انتحر شنقا في خيمته في مخيم روحين شمال إدلب في يوليو عام 2021. وبحسب إحصائية لمؤسسة إحسان للإغاثة والتنمية (سورية غير حكومية)، سجلت في إدلب وشمال حلب 246 حالة انتحار خلال 2020 يمثل النازحون نسبة 76% من تلك الحالات بحسب مسؤول برنامج حماية الطفل في المؤسسة خالد فتال، مؤكدا أن طرق الانتحار اختلفت في العدد المذكور، إذ أنهى 21.4% من هؤلاء حياتهم بتناول مبيدات حشرية، بينما قام 16% منهم باستخدام السكاكين، و11.5% قاموا بالقفز من فوق المباني.
دعم نفسي هزيل
أنهت سارة العمر ذات السبعة عشر عاما حياتها بحبوب غاز الفوسفين في 12 إبريل 2020، داخل خيمتهم في مخيم مشهد روحين بإدلب، بعد مرورها بحالة نفسية صعبة منذ نزوحهم من ريف دمشق، حيث تراجع تحصيلها العلمي وأصبحت ترفض الذهاب إلى مدرسة المخيم، ودخلت في حالة من العزلة والاكتئاب، حتى انتحرت بحسب رواية عمتها رقية العمر.
لم يكن أمام والد سارة إلا طلب المساعدة من منظمة توعوية (فضل عدم ذكر اسمها)، أرسلت بدورها مختصيْن بالتوعية المجتمعية وعقدوا جلستين مع سارة لإقناعها بضرورة استمرارية الحياة رغم النزوح، لكن ذلك لم يغير من الأمر شيئا، ولم تكن العائلة على علم بوجود خط ساخن أو عيادة متخصصة بتقديم الدعم النفسي في إدلب، بحسب شهادة عمتها، كون العائلة منهمكة بتأمين قوت يومها ولا تتواصل إلا مع المنظمات الإغاثية.
ومر الطفل إبراهيم السماك بتجربة مماثلة، منذ أن نزح وأسرته من محافظة حمص إلى مخيم النهر بمنطقة عفرين بريف حلب عام 2018، إذ لاحظت الأسرة تغير حاله وتراجع تحصيله العلمي، وأصيب بفقدان الشهية والعزلة، بحسب والده ماجد السماك، حتى وصل به الحال إلى محاولة الانتحار بشنق نفسه داخل الخيمة في مطلع ديسمبر عام 2018، واستطاع الأهل إنقاذه، حينئذ، أخبرهم رفضه للذهاب إلى المدرسة بعد تعرضه للتعنيف من طلبة آخرين، لكن إدارة المدرسة الواقعة ضمن المخيم والمنظمات القائمة عليها لم يبلغوا الأهل بأي ملاحظة، ورغم انقطاع إبراهيم لم تتواصل المدرسة أو أي من المنظمات مع الأسرة، وفق الوالد.
ويعزو جمعة حالة العزلة والنزوع إلى الانتحار التي تتشكل لدى الأطفال النازحين إلى فقدان الدعم، مؤكدا أن الأطفال في مخيمات النزوح لا يجدون من يستمع لمشاكلهم الأسرية والاجتماعية ويساعدهم فيها، وغالبا ينشغل عنهم الوالدان في تأمين حاجة الأسرة للعيش. كما تعاظمت ظاهرة الطفل المعيل للأسرة بسبب موت الأب أو اعتقاله أو طلاق الأبوين، وما ينتج عنه من مشاكل اجتماعية أسهمت بتحويل الأطفال إلى معيلين حقيقيين مسؤولين عن أسر لا يقل عدد أفرادها عن 3 أو 4 أفراد، ومع تدني أجور العمال شمال غرب سورية وارتفاع تكاليف المعيشة ينسى الطفل طفولته، ويعمل على تأمين الاحتياجات الأساسية مهما بلغ من التعب والشقاء، إلى جانب ما يصطدمون به من واقع صعب واستغلال من قبل أرباب العمل.
ونجحت منظمات ناشطة في الشمال السوري مثل “إحسان” في ثني 7 أشخاص عن الانتحار، وفقا لردهم على “العربي الجديد” من خلال إخضاعهم لجلسات وتحويلهم إلى عيادات متخصصة بحماية الطفل، بالإضافة إلى وحدة الأمراض النفسية في سرمدا شمال إدلب، والتي تتبع اتحاد منظمات الإغاثة والرعاية الطبية UOSSM INTERNATIONAL (منظمات دولية تقدم الرعاية الطبية)، والتي نجحت بثني 15 حالة عن الانتحار، ومساعدة 5 على مجابهة أفكارهم الانتحارية.
إلا أن نازحين قابلهم معد التحقيق يرون أن احتياجات الأطفال النفسية لا تنال الاهتمام المطلوب، ومن بينهم خالد البدري المهجر وأسرته من ريف حماة إلى تجمع مخيمات أطمة التي تؤوي 7 آلاف نازح، قائلا إنه خلال 4 سنوات قضاها في المخيم، يرى أن المنظمات تنفذ زيارات خاطفة ولا تتطرق لمشاكلهم، علما بأن هذا المخيم الكبير شهد 5 حالات انتحار أطفال على الأقل خلال النصف الأول من العام الحالي وفق فريق منسقو الاستجابة في سورية، كان آخرها في 25 يوليو 2021، إذ انتحر المراهق رامز درويش البالغ من العمر 17 عاما، والذي نزح من بلدة التريمسة بريف حماة.
_________________________________
(*) المصدر: “العربي الجديد”.