في الوقت الذي يحذر فيه مجتمع الاستخبارات الأمريكية والغربية من احتمال حدوث غزو روسي لأوكرانيا هذا الشهر، رفضت الحكومة الألمانية الطلبات الأوكرانية بالحصول على أسلحة دفاعية قالت إنها بأمسّ الحاجة إليها، فيما اكتفت برلين بإرسال 5 آلاف خوذة واقية فقط بدلاً من 100 ألف كانت قد طلبتها كييف، حيث وصفت الأخيرة ما قدمته برلين بأنه “مزحة”!
وحاولت وزيرة الدفاع الألمانية كريستين لامبرخت تبرير القرار بالقول إن “الحكومة الألمانية لم ترسل أسلحة إلى أوكرانيا؛ لأنها لا ترسل أسلحة فتاكة إلى مناطق الأزمات والنزاعات، وهي لا تريد تأجيج الموقف”، متجاهلة أن أوكرانيا ليست مجرد جبهة توتر؛ بل ساحة دفاع أمامية عن أوروبا، تهدد فيها دولة عظمى مدججة بالسلاح بلداً مجاوراً ضعيفاً وشبه ممزَّق، وأرضه محتلة.
وبرر من جانبه أيضاً المستشار الألماني أولاف شولتز ووزيرة الخارجية أنالينا بيربوك موقف بلادهما بالإشارة إلى أن “مبادئ سياسية تقف خلف رفض ألمانيا تصدير أسلحة إلى مناطق النزاع”، قائلين إن “هناك اتفاقاً بين الائتلاف الحكومي الحاكم ينص على أنه في حالات فردية مبررة فقط، يجب توثيقها بطريقة يسهل فهمها للرأي العام، يمكن حدوث استثناء لذلك القرار”.
ما حقيقة عدم إرسال ألمانيا أسلحة إلى مناطق النزاعات؟
في الواقع، تتمتع ألمانيا بسجل كبير في مبيعات الأسلحة وإرسالها إلى مناطق النزاعات، وهناك كثير من الأمثلة التي تم فيها تصدير أسلحة ألمانية وبعضها فتاكة، بموافقة الحكومة، أو بدعم خاص منها، بدءاً من كوريا الجنوبية إلى دول البلطيق التي تقع في مرمى فلاديمير بوتين وحتى دول الشرق الأوسط وغيرها، كما يقول تقرير لموقع Defense News الأمريكي.
وسجلت صادرات برلين العالمية من الأسلحة رقماً قياسياً جديداً في عام 2021، وكان جزء كبير من تلك الصفقات مرتبطاً بحجة “وجود مخاطر أمنية تهدد الديمقراطيات”.
وبحسب مؤشر TIV التابع لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام “SIPRI”، تعتبر مصر- على سبيل المثال- خامس مستورد للسلاح الألماني منذ عام 2010؛ إذ تم في الفترة ما بين الأول من يناير/كانون الثاني 2021 وحتى 14 كانون الأول/ديسمبر 2021، إصدار تراخيص لتصدير أسلحة لمصر بقيمة 4.34 مليار يورو، بحسب وزارة الاقتصاد الألمانية.
وصادقت حكومة المستشارة أنجيلا ميركل على هذه المبيعات، على الرغم من تورط مصر عسكرياً في صراعات اليمن وليبيا، وتعرضت لانتقادات بسبب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، كما يقول تقرير لشبكة DW الألمانية.
وهناك دول أخرى شاركت أو ما زالت تشارك في الحرب باليمن منذ عام 2015، حصلت على توريدات أسلحة من ألمانيا، كالسعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت وقطر.
ولعب السلاح الألماني في حرب اليمن دوراً مهماً أثبته تقرير استقصائي في عام 2019 أصدره مشروع German Arms، حيث لم تتوقف برلين عن تصدير أنواع معينة من الأسلحة على الرغم من التحذيرات المستمرة لمخاطر استخدامها بشكل خطير ضد المدنيين.
دعم بمختلف الأسلحة.. من كوريا الجنوبية حتى دول البلطيق
باعت ألمانيا لكوريا الجنوبية كميات كبيرة من الأسلحة على مدار العقد الماضي، مما ساعد سيول على ردع كيم جونغ أون زعيم كوريا الشمالية. وفقاً لبيانات من معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، كانت كوريا الجنوبية الوجهة الأولى لصادرات الأسلحة الألمانية من 2013 إلى 2017، وبلغت ذروتها في عام 2017، وهو العام الذي حظي بتوتر متزايد أكثر من غيره ومخاوف من انفجار الأوضاع في شبه الجزيرة الكورية.
ولم تقتصر صادرات الأسلحة الألمانية إلى كوريا الجنوبية على الأسلحة الدفاعية فقط، بل شملت أسلحة فتاكة مثل صواريخ كروز ومدافع الهاوتزر التي ساعدت في الحفاظ على الردع ضد كوريا الشمالية المسلحة نووياً، بحسب تقرير لموقع The defense post الأمريكي.
لم يؤد نقل الأسلحة الألمانية إلى كوريا الجنوبية لتفجير الأزمة، كما تفترض نظرية لامبرخت وزير الدفاع الألماني، بل عززت قدرة كوريا الجنوبية على الردع والدفاع عن نفسها، وبالتالي زيادة تكاليف العدوان الكوري الشمالي المحتمل، وكان هذا هو بالضبط ما يمكن أن تفعله الأسلحة الألمانية في أوكرانيا فيما يتعلق بالعدوان الروسي، كما يقول موقع Defense News.
وبنفس منطق الردع، زوّدت الحكومات الألمانية المتعاقبة دولاً أوروبية أخرى بالأسلحة التي تحتاجها للدفاع عن نفسها، فمنذ عام 2012، باعت ألمانيا أسلحة مثل مدافع الهاوتزر والدبابات ذاتية الدفع لأعضاء الناتو كالدنمارك ولاتفيا وليتوانيا والنرويج، وكذلك إلى دول غير أعضاء في الناتو مثل فنلندا والسويد، والتي كانت جميعها أهدافاً للتهديدات أو الاستفزازات الروسية.
إذن لماذا ترفض برلين دعم كييف؟
لم تخلق الأسلحة الألمانية أو تؤجج التوترات بين تلك الدول الأوروبية وروسيا، بدلاً من ذلك، عززت الأسلحة الألمانية من قدرة هذه الدول على ردع أي عدوان محتمل من جارتهم الشرقية القوية، وهذا ما يجعل رفض برلين دعم أوكرانيا مخيباً للآمال بالنسبة للمسؤولين في كييف.
تقول صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، إن نفوذ موسكو الاقتصادي على برلين وإمدادات خطوط الطاقة الروسية لها، يساعدان في تفسير قرار برلين بعد دعم أوكرانيا بالسلاح الذي تحتاجه لمواجهة الغزو الروسي.
وتريد واشنطن من ألمانيا أن تُظهر لبوتين أنها لن تسمح بالاعتماد على الطاقة لتحديد سياستها الخارجية؛ لذلك تبحث الإدارة الأمريكية عن بدائل لتوريد الغاز لألمانيا وأوروبا عبر دول في الشرق الأوسط مثل قطر بأسرع وقت ممكن، فيما يحاول الرئيس الأمريكي جو بايدن إظهار أن الجبهة الغربية موحدة ومتماسكة أمام روسيا.
ويبدو أيضاً أن ألمانيا لا تشعر بخطر داهم من روسيا، فهي تتعامل مع دول شرق أوروبا، مثل أوكرانيا وبولندا ودول البلطيق، كمنطقة عازلة تفصلها عن الدب الروسي، إضافة إلى أنها قد تعتقد أن تكلفة مزيد من الانخراط في التوتر مع روسيا تعني زيادة الميزانية الدفاعية لألمانيا، وهو ما قد يهدد الرخاء الاقتصادي الاستثنائي الذي تتمتع به البلاد حالياً.
معايير ألمانيا المزدوجة حول أوكرانيا
لا شك أن الغرب يعتبر أوكرانيا “دولة ديمقراطية مهددة”، وبناء على ذلك من المفترض أن تكون ألمانيا أول الداعمين لكييف لأنها تبرر معظم صفقات أسلحتها إلى مناطق النزاعات بحجة “دعم الديمقراطيات المهددة”. وعززت روسيا بشكل كبير من قوتها القتالية على الحدود الأوكرانية منذ أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والتي يبلغ عددها الآن حوالي 130 ألف جندي، وفقاً لكيف.
ويعتبر قرار برلين برفض الأسلحة التي تحتاجها أوكرانيا متناقضاً بشكل صارخ مع تصرفات العديد من دول الناتو الأخرى التي تسارع بتسليح كييف وتدريب قواتها على صد الغزو الروسي. وقامت الولايات المتحدة وإستونيا والمملكة المتحدة والعديد من دول الناتو الأخرى بتسريع توريد الأسلحة إلى أوكرانيا، بما في ذلك صواريخ جافلين المضادة للدبابات وصواريخ ستينجر المضادة للطائرات وقاذفات القنابل والأسلحة الصغيرة ومعدات عسكرية أخرى.
بالطبع، لن تجعل عمليات الدعم هذه أوكرانيا قريبة من التكافؤ العسكري مع روسيا ولا تشكل تهديداً هجومياً على روسيا، وبوتين يعرف ذلك جيداً. مع ذلك، فإن عمليات الدعم هذه يمكن أن تعزز القدرات الدفاعية لأوكرانيا، مما يجعل الغزو أكثر تكلفة بالنسبة لروسيا وبالتالي أقل احتمالية.