منذ نشأتها عام 1945م، والأحداث العالمية المتلاحقة واحدة تلو الأخرى تفضح ازدواجية المعايير والقيم التي تستخدمها وتروج لها منظومة الأمم المتحدة بالتفرقة بين القضايا التي تخص الشعوب المسلمة، والعربية منها على وجه الخصوص؛ باعتبارها الإرث الاستعماري القديم، وبين قضايا تخص مصالح الكبار الذين يمسكون بمقاليد المنظمة الدولية.
وبالتالي أضحت الأمم المتحدة التي يتشارك عضويتها 193 دولة مجرد باب خلفي تقضى منه مصالح أسياد العالم، ورغم حصولها على جائزة «نوبل» للسلام اثنتي عشرة مرة، فإن عملها يتعارض مع شعارها «السلام والكرامة والمساواة على كوكب ينعم بالصحة»!
مجلس الأمن اتخذ قرارات عديدة بالشأن الفلسطيني إلا أنها ظلت حبراً على ورق لتعنت الاحتلال
القضية الفلسطينية.. حبر على ورق
كان غريباً دائماً موقف الأمم المتحدة من الصراع العربي «الإسرائيلي» عامة، والقضية الفلسطينية خاصة، حيث كانت المنظمة أحد عوامل زرع الكيان الصهيوني والاعتراف به، ولم يصدر قرار منصف منذ قرار التقسيم عام 1947م حتى الآن، بفضل الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، وحليفتيها فرنسا وإنجلترا.
وفي عام 1975م، ورغم إنشاء الجمعية العامة لجنة الأمم المتحدة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف، عملاً بقرارها (3376)، ظلت برامجها وتوصياتها مجرد حبر على ورق، وهي اللجنة التي كان منوطاً بها أن توصي بوضع برنامج تنفيذي لتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه غير القابلة للتصرف، المتمثلة في تقرير المصير دون تدخل خارجي، وفي الاستقلال والسيادة الوطنيين؛ وفي العودة إلى دياره وممتلكاته التي شُرِّد منها.
ومنذ اختيار الـ29 من نوفمبر من كل عام «يوماً دولياً للتضامن مع الشعب الفلسطيني»، تقلص دور اللجنة إلى مجرد برنامج إعلامي ومنشورات، ولم يظهر لها أي دور إلا ترحيبها بعقد مؤتمر مدريد للسلام في عام 1991م، وإعلان المبادئ الصادر في عام 1993م، وبالاتفاقات اللاحقة التي توصلت إليها «إسرائيل» ومنظمة التحرير الفلسطينية.
وباعتباره المسؤول عن حفظ السلام والأمن الدوليين، اتخذ مجلس الأمن الدولي سلسلة من القرارات المتعلقة بالشأن الفلسطيني، منذ العام 1948م، إلا أن هذه القرارات ظلت حبراً على ورق؛ بسبب عدم التزام «إسرائيل» بها؛ بل واستمرارها في سياساتها العدوانية وإجراءاتها الأحادية بحق الشعب الفلسطيني، دون أن يحرك المجتمع الدولي أي ساكن.
وفي قراره الأول، رقم (57) بتاريخ 18 سبتمبر 1948م، أعرب مجلس الأمن عن صدمته لاغتيال وسيط الأمم المتحدة في فلسطين «الكونت فولك»، على يد جماعة يهودية إجرامية بالقدس، مكتفياً بهذه الشعارات الشاجبة والمستنكرة، رغم أنه من المفترض أن يمارس دوره بطريقة أكثر فاعلية.
وفي حين جاء القرار الأربعون تحت رقم (2334) لعام 2016م بتاريخ 23 ديسمبر، ليحث على وضع نهاية للمستوطنات «الإسرائيلية» في الأراضي الفلسطينية، كان الرد الصهيوني مزيداً من المستوطنات وتهويد القدس، بل وإعلانها عاصمة موحدة وأبدية لها وبمباركة أمريكية، وفي المقابل صمتت المنظمة الدولية صمت القبور، اللهم إلا من بعض العبارات المستنكرة والشاجبة ذراً للرماد في العيون.
«الفيتو» الغربي سيف مصلت لحماية مصالح الكبار ولا عزاء للضعفاء
عدد محدود
ومما يدل على ازدواجية مبادئ الأمم المتحدة، وازدواجية معاييرها تجاه القضية الفلسطينية كذلك طبيعة تمثيلها في مناطق الصراعات، وتمثيلها في فلسطين؛ ففي حين تحرص على الوجود في مناطق الصراعات بصور شتى، لتصدر تقاريرها، وتراقب الأوضاع عن قرب، وتقوم بدور إنساني وحقوقي، تراها في فلسطين بعدد محدود لمنظماتها العاملة، وهي على الأكثر 4 منظمات؛ على رأسها «أونروا»، و«يونيسف»، و«حقوق الإنسان»، وجميعها تعرضت للعدوان الصهيوني على مقراتها وأعضائها أكثر من مرة، دون أن تنبس المنظمة الدولية ببنت شفة، اللهم إلا عبارات الشجب والإدانة؛ فـ»الفيتو» الأمريكي وغيره سيقف بالمرصاد لأي قرار يمكن أن يهز سمعة الصهاينة على المستوى الدولي أو يقلص من نفوذهم الميداني على الأرض.
العراق وسورية.. حصار واحتلال:
الازدواجية الأممية لا تختلف في التعامل مع العراق وسورية؛ حيث أصدر مجلس الأمن 53 قراراً بين عامي 1990 و2000م، بشأن العراق، أهمها فرض الحصار عليه، والنفط مقابل الغذاء، وقرارات بعقوبات اقتصادية وتدمير أسلحة، وفي ظل ذلك وقف عاجزاً أمام غزوه من قبل قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة عام 2003م، بزعم تدمير أسلحة الدمار الشامل، وهو الاتهام الذي ثبت كذبه فيما بعد على ألسنة مدعيه، ومنهم رئيس الوزراء البريطاني الأسبق «توني بلير».
وفيما يتعلق بسورية، فقد صدرت القرارات أرقام (2042)، (2043)، (2059) خلال الفترة من أبريل حتى يوليو 2012م، متعلقة بإنشاء قوة مراقبة الحرب الأهلية، وإنشاء بعثة دائمة للأمم المتحدة للمراقبة، ثم أعقبها القرار (2118) عام 2013م للقضاء على الأسلحة الكيميائية السورية، في حين يتم التغافل عن الترسانة النووية «الإسرائيلية» التي بها أكثر من 250 رأساً نووياً، وهي كفيلة بتدمير العالم كله.
وكان من نتيجة ذلك أن قتل أكثر من نصف مليون سوري، فيما أصبحت سورية مسرحاً للقوى الكبرى.
من الأفغان إلى الروهنجيا:
العجب العجاب يتكشف من خلال الأزمة الأفغانية في ظل الاحتلال السوفييتي من عام 1979 حتى الجلاء عام 1989م، ثم الاحتلال الأمريكي عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 وحتى الجلاء 2021م؛ حيث تصارع «الفيتو» وفق مصالح الدول الكبرى ليدفع الشعب الأفغاني الثمن.
كذلك، فإن التحرك الأممي وفق مصالح المعسكر الغربي ليس بحاجة إلى دليل أكثر من معالجة أزمة مسلمي الروهنجيا في ميانمار؛ حيث تم رفض أي تحقيق أممي في الإبادة أو التسليح «الإسرائيلي» والأمريكي للجيش الميانماري، إلا بعد الانقلاب العسكري الأخير على الزعيمة المدنية السابقة لميانمار «أونغ سان سو تشي»، التي سبق أن منحها الغرب جائزة «نوبل» للسلام عام 1991م، قبل أن تتحول إلى «سفاحة».
الصين.. تحرك متأخر:
وفي الصين، ورغم التطهير العرقي والديني والثقافي ضد المسلمين، خاصة أبناء قومية الإيغور، واحتلال الجيش الصيني لجمهورية تركستان الشرقية المسلمة عام 1949م، لم تستطع الأمم المتحدة حتى اليوم اتخاذ قرار منصف وعادل، ولم يتم التحدث إلا مؤخراً بعد اشتعال الصراع الأمريكي الصيني، فيما أعربت الصين عام 2020م عن معارضتها الحازمة لقرار الولايات المتحدة بإلغاء تصنيف «حركة تركستان الشرقية الإسلامية» كمنظمة إرهابية كما كان الوضع سابقاً.
المنظمة الأممية تهب لنجدة أوكرانيا ومكاتبها بفلسطين وسورية والعراق وليبيا موصدة الأبواب!
في أوكرانيا.. الأمر مختلف:
وما يؤكد تلك الازدواجية، أن المنظمات الأممية بالكامل تحركت فوراً في أوكرانيا منذ اليوم الأول للحرب؛ الأمر الذي رصده المدير العالم لمنظمة الصحة العالمية «تيدروس أدهانوم»؛ ما دفعه للتصريح، يوم 14 أبريل 2022م، قائلاً: «العالم لا يولي حالات الطوارئ التي تؤثر على السود الاهتمام نفسه الذي يوليه لتلك التي تؤثر على البيض.. ويجب أن أكون صريحاً وأقول: إن العالم لا يعامل الجنس البشري بنفس الطريقة»!
ومن المؤكد أن المسؤول الدولي محق، فالناظر في تصريحات الأمين العام للمنظمة الدولية «أنطونيو غوتيريش» وحرصه على التجييش من أجل أوكرانيا، وحثه الدول على جمع الأموال من أجل دعم أوكرانيا في مواجهة روسيا، يدرك أن الأمر لا علاقة له بمعايير أو قيم أو مبادئ، وإنما هي لغة المصالح التي تحرك تلك المنظمة وقيادتها الظاهرة والباطنة.
وتبقى الحقيقة الساطعة التي لم تعد غائبة إلا عن أعين أصحاب المصالح من العرب والمسلمين، وهي أن تلك المنظمات الدولية فقدت مصداقيتها حينما صارت المصلحة هي محركها، منذ أن غابت شمس العدالة عن فنائها، ومنذ أن صارت الصهيونية العالمية محركاً أساسياً لمواقفها.. فهل ستظل شعوبنا ترنو إلى خير من هؤلاء، أم ستهب يوماً ما لترفض التبعية لتلك المنظمات التي فقدت صلاحيتها؟!