ما زال منكرو السُّنَّة يسدرون في غيهم، ففي هذه الشبهة يدَّعي منكرو السُّنَّة أن السُّنَّة النبوية هي مجرد كلام للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن كلامه ليس فيه إلزام للمسلمين؛ وذلك للحط من شأنها، وتجريدها من خصائصها الدينية، ويطعنون في الحديث النبوي: “ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه..”(1)، ويعتمدون في طعنهم فيه على حديث النهي عن كتابة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: لو كانت السُّنَّة من عند الله لما نهى عن كتابتها النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان المتعين الأمر بكتابتها مثل القرآن تماماً، وقال بعضهم: إن السُّنَّة لو كانت وحياً من عند الله تعالى ما أهمل النبي صلى الله عليه وسلم تدوينها وكتابتها، إلى أن يأتي البخاري ومسلم في القرن الثالث فيقوما بمهمة كان ينبغي أن يدعو إليها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، كما يحرفون معنى قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (النجم: 3-4)، فيقول بعضهم: إن ما كان يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم، هو وحي كله، لقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) والاستناد إلى هذه الآية الكريمة لا مسوغ له هنا، فالضمير “هو” لا يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يعود بوضوح –وحصراً– إلى الكتاب المنزل(2).
بيان بطلان هذه الشبهة وتفنيدها
أجمع علماء الحديث على أن السُّنَّة التي تحققت في سندها ومتنها شروط الصحة هي كلام نطق به النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه من مقومات الرسالة، ومتصل بمهمة التبليغ، التي من أجلها أرسل الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم، ليقيم على الناس الحجة، وتتم عملية التكليف، وكل ما هذا شأنه فهو صادق كل الصدق، والناس ملزمون به مثل إلزامهم بالقرآن سواء بسواء، إذ لا فرق بين أمر أو نهي جاء في القرآن، وأمر ونهي جاء في السُّنَّة النبوية، وهذا ما يفيده الحديث السابق ذكره “ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه..”، فالمثلية بين القرآن، وبين ما أوتيه الرسول صلى الله عليه وسلم ليست مثلية “الكم” –أعني العدد– وإنما هي مثلية “الكيف”(3).
ليست مثلية العدد فيكون عدد الأحاديث النبوية مثل عدد آيات القرآن الكريم، وإنما هي مثلية “الكيف” وتتمثل في: مثلية “الحقية” فالقرآن حق لا باطل فيه، والسُّنة الثابتة حق لا باطل فيها، ومثلية الطاعة والامتثال، فتجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ما أمر به أو نهى عنه، كما تجب الطاعة والامتثال لما جاء في القرآن الكريم، وليس مهماً عندنا أن يكون طريق السُّنَّة هو الوحي الحرفي، أو الوحي المعنوي، أو يكون طريقها الإلهام، أو يكون طريقها الاجتهاد كما ذهب إلى هذا بعض العلماء، وبالغ فيه منكرو السُّنَّة، فيكفينا أن السُّنَّة التي صح صدورها عن النبي صلى الله عليه وسلم: كلام خرج من فمه الطاهر، أو فعل كان هو فاعله، أو تقرير لفعل صدر من غيره فلم ينهه عنه وكان المراد بكل ذلك التبليغ عن الله سبحانه وتعالى.
وقد حرَّف منكرو السُّنَّة معنى قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) وقالوا: إن ضمير “هو” وصف للقرآن وحده، ولا تدخل السُّنَّة في هذا الوحي بحال، وسياق الآيات الكريمة يبطل هذا الزعم، (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)، فالآيات اشتملت على ضمير مستتر في “يَنْطِقُ” وضمير منفصل “هُوَ”، ومنكرو السُّنَّة فرقوا بين الضمير المستتر في “يَنْطِقُ” وهو فاعل النطق فجعلوه للنبي صلى الله عليه وسلم وأبقوه على دلالته الظاهرة –وهذا حق لا نزاع فيه– وبين الضمير الظاهر المنفصل في (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) فجعلوا الضمير “هُوَ” عائداً على القرآن وحده، وهذا تعسف محض؛ لأن القرآن الكريم لم يرد له ذكر هنا حتى يعود عليه الضمير؛ ولأن لهذا الضمير مرجعاً في الآية قبله، وهو “النطق” المفهوم من الفعل المضارع “يَنْطِقُ” أي: وما نطقه صلى الله عليه وسلم إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، سواء كان النطق بالقرآن الكريم أو بالسُّنَّة؛ لأن المقام مقام ثناء وتزكية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، من طهارة قلب، وصدق لسان، وقد أكد الله تعالى هذا الثناء بالتوكيد القسمي (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)، ثم نزه الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فنفى عنه الضلال والغواية (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)، ثم نفى تأثير أهواء النفس في قوله وحديثه (نطقه) (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) ثم حصر نطقه صلى الله عليه وسلم في كونه وحياً، فمن أين فهم هؤلاء أن الضمير في “إِنْ هُوَ” عائد على القرآن الكريم وحده؟!
إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينطق بالسُّنَّة كما ينطق بالقرآن، فكان يجب عليهم أن يقولوا إن الضمير في “إِنْ هُوَ” يشمل كل ما نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء كان نطقه قرآناً، أو سُّنَّة مراداً بها التبليغ عن الله تعالى، وقد فرَّق كثير من العلماء بين وحي القرآن ووحي السُّنة، فوحي القرآن ما كان باللفظ والمعنى من عند الله تعالى، ولا تجوز بحال روايته بالمعنى، ووحي السُّنَّة ما كان المعنى من عند الله تعالى، واللفظ من عند النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز روايتها بالمعنى عند الضرورة.
أو أن القرآن وحي جَلِي، والسُّنة وحي خَفِي وكون السُّنَّة من عند الله، بأي كيفية أَعْلَم الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى يؤيده القرآن الكريم مرة أخرى في قوله تعالى: (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113)، أي أنزل عليك هذا القرآن العظيم والذكر الحكيم الذي فيه تبيان كل شيء وعلم الأولين والآخِرين، والحكمة: إما السُّنَّة التي قد قال فيها بعض السلف: إن السُّنَّة تنزل عليه كما ينزل القرآن، وإما معرفة أسرار الشريعة الزائدة على معرفة أحكامها، وتنزيل الأشياء منازلها وترتيب كل شيء بحسبه(4).
فهل –بعد هذا– يكون لشبهة منكري السُّنَّة هذه قبول؟
ولا يقدح في كون السُّنَّة وحي معنى لا وحي ألفاظ، أن بعض الأحاديث تختلف رواياتها بوضع لفظ مكان آخر أو بالزيادة والنقص، أو بالتقديم والتأخير؛ لأن هذه “الاختلافات” كانت بسبب اختلاف السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كل راو يروي ما سمع كما سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم، فمرة نطق بهذا، ومرة نطق بذاك حتى وإن ترتب على ذلك اختلاف المعنى، وما أشبه هذا في السُّنَّة الصحيحة باختلاف القراءات في القرآن، والقراءات الصحيحة كلها قرآن، ولا تقدح هذه القراءات في مصدرية القرآن، وهو الوحي المتعبد بتلاوته، فهل يثوب هؤلاء عن غيهم؟
___________________________________
(1) رواه المقدام بن معد يكرب، أخرجه أبو داود في صحيحة تحت رقم (4604)، وصححه الألباني.
(2) الكتاب والقرآن، قراءة معاصرة، المؤلف: محمد شحرور، صـ545.
(3) الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية عرض وتفنيد ونقد، المؤلف: د. عبدالعظيم المطعني، 1/78.
(4) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، المؤلف: عبدالرحمن ناصر السعدي، 1/200