سيظل “جوته” هو الاسم العملاق في الثقافة الغربية الذي لم يكتف بإنصاف النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقط.. بل أحبه حبا تملكه وتملك عليه عقله وقلبه وشاعريته العبقرية.. وجوته هو شاعر ألمانيا الكبير.. يوهان فولفجانج جوته (1749-1832 م) ابن فرانكفورت الذي شغف بالإسلام وشريعته.. والقرآن وبلاغته.. ومحمد ورسالته.
“إذا كان الإسلام معناه التسليم لله فعلى الإسلام نحيا ونموت جميعا”.. هكذا تحدث جوته شاعر القلوب المرهفة ووجدان أوروبا الشفيف.. والشاعر (الإنسان) كما وصفه نابليون (1769-1821م) بعد لقائه به حين غزا ألمانيا سنة 1806م.
كان جوته يبحث بشغف واهتمام كبيرين عن الظاهرة الأولية للدين -أي دين- في الأديان المختلفة.. مقبلا عليها جميعا في قوة من العقل وخصب من الوجدان وفسحة من أفق الفكر.. وأخيرا هدته فطرته الصافية إلى تلك الحقيقة العميقة (حقيقة التسليم)..
سيكون مهما هنا أن نشير إلى أن جوته كان يشعر بعاطفة عميقة تجاه الإسلام طوال الوقت، وقد كانت علاقته بالثقافة العربية والإسلامية قد بدأت مبكرا حتى إنه قال بأنه لا يكره أن يشاع عنه أنه مسلم.. درس القرآن باللاتينية والألمانية والإنجليزية ووجد في الإسلام ما يتوافق تماما مع أفكاره ومذهبه في الحياة واصفاً إياه بأنه “كتاب الكتب” وأنه “الطمأنينة الخالدة”.. وكانت معرفته به -بعد الكتاب المقدس- من أوثق معارفه كما قال.
كتب “جوته” مئات الصفحات يمجد فيها الرسول الكريم صلى اللـه عليه وسلم، ووصف أمة العرب والإسلام بأنها أمة شجاعة باسلة لا تهاب الموت بل إن الموت يهابها، ليس هذا فقط بل وأدرك عالمية الإسلام وخلوده فقال: ما كان لهذا الفيض النوراني أن يبقى مقصورا على الصحراء يغيض في رمالها وتمتصه شمسها ويصده الكثيب.
اقرؤوا وصفه للحظة تنزل الوحي على النبي الكريم “حينما كان يتأمل الملكوت جاءه الملاك على عجل. أتاه ومعه النور.. اضطرب من كان يعمل راعياً وتاجرًا فهو لم يقرأ من قبل.. والملاك أمره بقراءة ما هو مكتوب.. وأمره ثانية: اقرأ. فقرأ..”.
يصور “جوته” شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في قصيدته “أنشودة محمد” التي ترجمها الأستاذ عباس العقاد (ت/1964) في كتابه “تذكار جوته”: فيض قوي متدفق ينبع من الذرى العالية ناصعا متألقا وينهمر من السحاب وقد أرضعته الملائكة الخير.. وهو في مهده بين الصخور المعشوشبة/ ثم ينحدر فتيا صافيا متوثبا جذلان فرحا يجرف في طريقه الحصباء/ والورق الجاف/ ويشد من خلفه جداول الربى/ حتى إذا بلغ الوادي تفتحت الأزهار تحت أقدامه/ واستعادت المروج نضرتها من أنفاسه/ وانقادت له الأنهار/وهي تهلل وتهيب به/ خذنا معك خذنا معك/ نعبر معك الصحراء/ ونجوب معك الآفاق/ نخلع على البلاد أسماءها/ وننشئ معك المدائن الزاهرة/ ونشيد الأبراج العالية /والقباب المتوهجة /حتى نصل معك إلى البحر المحيط…
ويقول أيضا واصفا الرسول صلى الله عليه وسلم: “محمد نبي مرسل لغرض مقدر مرسوم.. يتوخى إليه أبسط وسيلة وأقوم طريق وهو إعلان الشريعة وجمع الأمم من حولها.. فالكتاب المنزل على محمد إنما بعث للناس ليحفزهم للإيمان بالله”.
لكن حفاوتنا بـ”جوته” وما قاله عن النبي الكريم لا تشغلنا عما كتبه أعظم فيلسوف عربي في العصر الحديث بلا مبالغة كما وصفه بحق د.طه حسين.. إنه ابن دمياط الدكتور عبد الرحمن بدوي (1917 -2002م)، وما كان لفيلسوف بقيمة وقامة د. بدوي أن يمر على هذا العقل الفياض مرورا عابراً وهو أصلا الابن البار لمدرسة الفكر الألماني.. فترجم لجوته كتابا من أهم كتبه التي أصدرها.. جمع فيه خلاصة ما عرفه ورآه وأحبه في الشرق وفكره وآدابه.. الكتاب اسمه “الديوان الشرقي للمؤلف الغربي” الذي تجلت في سطوره روح الإسلام ونبيه الكريم في أنقى وأروع الصور والمعاني وكتب له مقدمة ضافية مع شروح وتعليقات عليه.
ولا يفوتنا هنا أن نشير لكتابين تعرضا لتجاهل ممنهج ومنظم.. أصدرهما الفيلسوف العربي الكبير في أيامه الأخيرة.. الكتاب الأول “دفاع عن القرآن ضد منتقديه” والثاني “دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره”..
ولسوف.. يُقرأ هذان الكتابان بعد عشرات السنين قراءة مرجعية واسعة، وسيكونان جزءًا من المكتبة الصلبة للفكر الإسلامي في العصر الحديث.. الكتابان نشرتهما مجلة الأزهر هدية لقرائها في عهد رئاسة تحرير المفكر الموسوعى د. محمد عمارة (1931 -2020م) رحمه الله.
وأخيرا فقد رأى جوته في النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) نموذجاً للنبي صاحب الرسالة الخالدة الذي نشر رسالته بالكلمة والعمل والجهاد.. ونتمنى للعقل الأوروبي الذي قرأ لجوته “د فاوست” وأعتبرها أحد أهم أيقوناته الإبداعية فكرا وشعورا في التعبير عن الإرادة والاختيار لدى الإنسان.. نتمنى لهذا العقل أن يتحرر من أوهامه وضلالاته عن الشرق وأمة الشرق..
صلى الله على محمد.. صلى الله عليه وسلم.