في كل سنة ومع حلول ربيع الأول، تتراوح مواقف المسلمين بين اللامبالاة والغلو في الاحتفال بهذه الذكرى إلى حدّ السقوط في مظاهر الانحراف والبدع، في الوقت الذي ينشغل فيه آخرون بالجدل حول نفس السؤال الذي يعود من جديد كل سنة: هل يجوز الاحتفال بالمولد النبوي الشريف؟
يقول الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، في مقدمة كتابه “فقه السيرة”: “إن المسلمين الآن يعرفون عن السيرة قشوراً خفيفة لا تحرك القلوب، ولا تستثير الهمم، وهم يعظمون النبي وصحابته عن تقليد موروث ومعرفة قليلة، ويكتفون من هذا التعظيم بإجلال اللسان، أو بما قلت مؤنته من عمل”.
ولا تختلف الحال بين المسلمين في العالم الإسلامي وفي ديار الغرب.
وباعتبار خصوصية الواقع الغربي -حيث يتواجد المسلمون مع غير المسلمين في مجتمعات تنتمي إلى الثقافة المسيحية- يجدر التفكير في أساليب تطوير تعامل مسلمي الغرب مع السيرة النبوية –ومنها مناسبة المولد النبوي الشريف- من أجل توظيف هذا الحدث بما يخدم مبدأ التعايش والحوار الحضاري.
تغيير التصورات وترك الجدل العقيم
ولعل مفتاح التطوير يكمن في تغيير العقليات والقناعات والتصورات والمفاهيم، وقد آن الأوان أن يخرج المسلمون من هذا الجدل العقيم حول شرعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف؛ فالموضوع أخذ مساحة واهتماماً أكبر من حجمه، وهنا يأتي دور العلماء المعاصرين المجددين الذين يجمعون بين فقه الدين وفقه الواقع والدعاة المتنورين في عملية التوعية.
ومن بين أهم التصورات التي يجب التركيز عليها الرد بالحجة على المعترضين السابقين والمعاصرين إجمالاً على أي شكل من أشكال إحياء المولد؛ كونه بدعة لأنه لم يثبت أن حصل ذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة الكرام، وبأن المسلمين لهم عيدان فحسب (الفطر والأضحى)، ثم إنه في إحياء المولد تشبه بالمسيحيين في احتفالهم بعيد ميلاد المسيح؛ فالكثير من العوام يتأثر بهذا الطرح، وبحجة سد الذرائع أمام الشبهات والانحرافات، تضيع مصلحة كبرى على المسلمين، ذلك أن المولد –صحيح أنه ليس عيداً- ولكنه ذكرى مهمة ومناسبة عظيمة يحتاج إليها المسلمون اليوم –خاصة من يقيم في ديار الغرب- بشكل كبير من أجل إحياء فكرة عظمة رسالة الإسلام التي أتى بها محمد صلى الله عليه الذي بعثه الله تعالى رحمة للعالمين.
الرسول القدوة
فدور العلماء التأكيد على الاستفادة من هذه المناسبة ليس فقط بالتعرف أكثر على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وحياته وتضحياته من أجل أداء الأمانة وتبليغ الرسالة، وإنما أيضاً للتعريف به لكل الناس مسلمين وغير مسلمين؛ فهو أكبر هدية أرسلها الله تعالى للناس كافة.
وتزداد الحاجة إلى مثل هذه المناسبات في الوقت الذي يشهد فيه العالم أزمة على مستوى القدوة الحسنة، ونتيجة لندرة وجود هذا النوع من القدوة، سلك الكثير من المسلمين -خاصة في صفوف الشباب- مناهج وطرقاً شتى بحثاً عن القدوة التي تفي بحاجاتهم، واليوم أصبح من يسمّون بـ”نجوم” الفن والسينما والرياضة وغيرهم قدوة لملايين من الشباب؛ حيث يتابعون تفاصيل حياتهم وسيرهم، في الوقت الذي لا يملكون أدنى ثقافة دينية عن الإسلام ونبي الإسلام.. اللهم إلا معلومات سطحية.
فإذا بحثنا في أسباب هذا التصحر الديني، نجد أن عوامله عديدة ومنها ما يعود إلى المحضن التربوي الأول ألا وهو الأسرة، ويسجّل في هذا السياق تقصير كبير في توريث الثقافة الدينية الصحيحة والتشبع بالقدوة النبوية؛ ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه، ومنها ما يعود إلى المحضن التربوي الثاني ألا وهو المدرسة، وهذا يقودنا إلى ضرورة مراجعة المناهج التعليمية فيما يقدم في المدارس الإسلامية والمؤسسات التعليمية الخاصة في ديار الغرب؛ فقد يتم تدريس السيرة ولكن بمقاربة تقليدية لا تحرك ساكناً ولا تربط بينها وبين الواقع، ولا ترتقي بتصورات التلميذ أو الطالب وسلوكه لأنه لم يتشرب معنى “الرسول القدوة” في الحياة اليومية، وأسلوب تعامله مع الأقارب والأرحام والأصدقاء والخصوم.
أما العامل الثالث فهو يخص المؤسسات الدعوية والجمعيات الإسلامية والمساجد؛ فمسؤوليتها كبيرة في التوعية، وهنا يجدر لفت الانتباه إلى الدروس وخطب الجمعة التي تُعتبر مناسبة مفصلية في هذا السياق؛ فهناك 52 خطبة في السّنة، يعني هناك 52 رسالة يستطيع خلالها خطيب الجمعة أن يبلّغ رسائل توجيهية مفيدة وهادفة تساعد على مراجعة التصورات وتصحيح المفاهيم في مسائل عدة، ومن بينها ما يتصل بالقدوة الحسنة التي تتمثل في سيرة الرسول عليه السلام، والتوقف عند آيات وردت في القرآن الكريم مثل: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21) أو أحاديث مثل الحديث التي بيّن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أسس المنهج الوسطى للإسلام، عندما رد على من نهجوا نهج التشدد فقال: “أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني”، إضافة إلى توضيح أن الاقتداء أو اتباع الرسول لا يعني تقليده في كل تفاصيل حياته؛ لأن لديه خصوصيات لا تعني عامة المسلمين.
الرسول صلى الله عليه وسلم والقيم الإنسانية
في هذا السياق، تتأكد أهمية الاستفادة من مناسبة ذكرى المولد من شهر ربيع الأول باعتبارها فرصة ثمينة للتوعية بمقام الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم الذي شوهت صورته عبر حملة من الرسوم الساخرة والأقوال الزائفة الكاذبة، وهي فرصة أيضاً للتعريف بالقيم الإنسانية التي بشّر بها حيث بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، ومن بين هذه القيم الشورى والعدل والعطف على الناس والصبر على أذاهم والتعاون مع الغير على الخير، وهو ما يندرج في صلب فكرة المواطنة التي يحتاج المسلمون إلى تشرب معانيها وعدم اختزالها في المطالبة بالحقوق، وإنما أيضاً القيام بالواجبات والشعور بالمصلحة العامة وبالمصير المشترك في إطار المجتمع السفينة التي يتعايش فيه المسلمون مع غير المسلمين في ظل الاحترام المتبادل.