من الإشكاليات السِّياسية التاريخية الخطيرة والممتدَّة في مسيرة الإنسانية، التي أخذت حيِّزاً كبيراً من حياة البشرية علاقة الإنسان بالسُّلطة والألوهية، فما يلبث أنْ يتجرَّد من ضوابط القيم ومعاني العبودية لله تعالى وغرور القوة، إلاَّ ويلامَسُ صفات الربوبية وجلال الألوهية فيقع أعظمُ الفساد العام، وهو الاستبداد، وهو سبب الدَّاء الذي أصاب الأمة في مقتلها الحضاري، حيث يقول عبدالرحمن الكواكبي (1855 – 1902م) في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»: «إنَّ أصل الدَّاء هو الاستبداد السِّياسي، ودواؤُه دفعه بالشُّورى الدستورية..».
وقد تجلَّت هذه الحقيقة في الفقه السِّياسي القرآني ضمن المساحات التعبيرية والتصويرية المتكرِّرة في قصَّة فرعون مع بنْية نظامه الاستبدادي القديم، عندما تألَّه الإنسانُ على أخيه الإنسان بالشِّرك السِّياسي، وقد جاء الإسلام لمقارعة هذا «الاستبداد»، وفكّ طلاسم هذه المعادلة الخطيرة بين الإنسان والسُّلطة والألوهية، وقد قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مقولته الشَّهيرة: «متى استعبدتم النَّاس وقد ولدتهم أمهاتُهم أحراراً».
وقد سجَّل التاريخ بأنَّ أشرس الصراعات وأعْتَى المواجهات كانت –ولا تزال- من أجل الحرِّية، بين دعاة تحرير الأوطان والإنسان وسدنة هذا المعبد السياسي، وأنَّ جوهر هدايات السماء جاءت كثورة تحريرية للإنسان من كل أنواع العبوديات، وأنَّ من أهم الوظائف الأساسية للنبوَّة الخاتمة هي قوله تعالى عن النبي المخلِّص صلَّى الله عليه وسلَّم: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: 157).
والمستقرئ للفقه السياسي القرآني ينتهي إلى خلاصة دقيقة، وهي أنَّ النظام الاستبدادي بنية متكاملة وليس نزعة فردية للمستبدّ، وهو ما يجعل المسؤولية عن الاستبداد تتوزَّع على أركان هذه البنية السُّلطوية، وأنَّه لا يمكن اختزال التغيير في ذهاب الأشخاص دون ذهاب هذه المنظومات المتكاملة له، وهو ما يعني أنَّ التغيير يجب أن يكون شاملاً وجذرياً وليس جزئياً وشكلياً.
ويمكن نحت هذه الصورة عن النظام الاستبدادي بربط مشاهد التصوير القرآني لها في الأركان التالية:
أولاً: النَّزعة الفردانية والاستعلائية للمستبدِّ: وتنطلق زاوية الانحراف السياسي فيها من الإعجاب بالرَّأي، ومصادرة حق الغير في التعبير عنه، واحتكار الصواب ومحاولة إخضاع الجميع له، فقال تعالى عنه: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر: 29)، ثم يتمادى في معاني الرُّبوبية، وكأنه المتفرِّد بالتقدير والتدبير، فقال تعالى على لسانه: (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) (النَّازعات: 24)، ثم ينغمس في معاني الألوهية بمنطق الغرور بالقوَّة، عبر إخضاع الجميع للأمر والنَّهي الفوقي والسُّلطوي، فقال تعالى على لسانه أيضاً: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص: 38).
ثانياً: النُّخبة السياسية المترهِّلة: وهي الأداة السياسية المباشِرة في استعباد النَّاس والاستعلاء في الأرض، وهي التي تزيِّن للمستبدّ سوءَ عمله فيراه حسناً، وتقوم مقامه في الاستخفاف والاستغباء، فقال تعالى عمَّن يقوم بذلك وهو «هامان»: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ) (غافر: 36).
ثالثاً: المافيا المالية المحتكِرة للثروة: وهي النُّخبة المالية التي تقتات من الاستبداد والفساد، التي ترتبط بالنظام الاستبدادي ارتباطاً مصلحياً وعضوياً، وهي الواجهة الاقتصادية والأداة المالية له، التي يمثِّلها «قارون»، فقال تعالى عنه: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ) (القصص: 76).
رابعاً: النُّخبة الإعلامية والثقافية الممسوخة: التي تتألَّف من فقراء الضَّمائر، الذين يبيعون ذِمَمهم بفُتاتٍ من مصالح مادية ضيِّقة، فيسخِّرون أقلامهم وألسنتهم وماكيناتهم الإعلامية للدّعاية والتسويق والتبرير، التي يمثِّلها في بنية النظام الفرعوني القديم السَّحرة، فقال تعالى عنهم: (فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ {41} قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (الشعراء).
خامساً: الأداة الأمنية والعسكرية الباطشة: فما من نظام استبدادي إلاَّ ويبني بطولاته الزَّائفة على أجهزة أمنية وعسكرية واستخباراتية، تُعتبر اليد الطولى والقبضة الحديدية لإخضاع الخصوم والمنافسين والمعارضين، وهي أداة القهر والإكراه، العاجزة عن الحوار والإقناع، فقال تعالى عن هذا الرُّكن من أركان بنية النظام الاستبدادي الفرعوني: (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) (القصص: 8).
سادساً: الكتلة الشَّعبية الفارغة والصَّامتة: التي يقتلها الخوف ويُذِلُّها الطَّمع، لا تعرف لها مبدأ، ولا تشتغل على هدف، سقفُ طموحاتها لا يتجاوز مجرد استرضاء صاحب القوَّة المتغلِّب بالتزلُّف المبتذل، وهي التي عبَّر عنها القرآن الكريم بقوله تعالى: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) (الزّخرف: 54).
وفي التجربة الإسلامية، وبالرَّغم من رسوخ القيم السياسية الإسلامية عن طريق الحفظ النَّظري بالوحي، والحفظ العملي بالأنموذج النبوي، والحفظ التطبيقي للخلفاء الأربعة، فإنه وقع انحراف في الشق الدستوري للحضارة الإسلامية، بالانتقال من مركزية الأمَّة وسلطتها في الفعل السياسي، باعتبارها مصدر السُّلطة في الاختيار والرَّقابة والمحاسبة والعزل، على قاعدة البيعة الاختيارية والشورى الملزمة، وفق التركيز القرآني على مكانة الأمة في الخطاب الإلهي بقوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159)، إلى الانقلاب على هذه القيم السياسية، بالانتقال المروِّع إلى تضخيم مكانة الحاكم وحقوقه وصلاحياته على حسابها، بغضِّ النَّظر عن شرعيته ومشروعيته، مع أنَّ الإمام الماوردي (974 – 1058م) لخَّص وظيفته الأساسية في «حراسة الدِّين، وسياسة الدُّنيا».
وهو ما يفرض علينا التمييز بين القيم السياسية التي تكرَّست عبر «تجربة التاريخ» -كظرفية سياسية- على حساب القيم السياسية المستمدَّة من «قيم الوحي» في حضارتنا الإسلامية، وهو ما يمثِّل إعاقة خطيرة في الفقه السياسي، لذلك الخلط بين «سلطة الوحي» و«سلطة التاريخ».
والأخطر من ذلك هو تحكُّم العقل الفقهي والضَّمير الجمعي للمسلمين في عدم مقاومة هذا الانتقال، من نظام الخلافة الرَّاشدة على قاعدة الشُّورى (سلطة الأمَّة) إلى نظام الحُكم الجبْري بالمُلك العضوض على قاعدة الوراثة (الحكم الفردي)، وقد صدقت نبوءَتُه صلى الله عليه وسلَّم عندما قال: «تكون الخلافة في أمَّتي ثلاثون سنة، ثمَّ مُلْكٌ بعد ذلك»، عندما تسرَّبت الأدبيات السياسية اليونانية والفارسية إلى الأمة الإسلامية، وقد كتب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه إلى وَالِيهِ على المدينة أن يبايع لابنِه يزيد، فقال عبدالرَّحمن بن أبي بكر الصِّديق: «جئتُم بها هِرَقْلية وفَوْقية تبايعون لأبنائكم».
لقد صوَّب الإسلام هذه العلاقة التاريخية بين الإنسان والسُّلطة والألوهية عندما قرَّر قاعدةً عقائدية، وهي نزع صفة الألوهية عن كل المخلوقات، وعلى رأسهم الأنبياء المتَّصلين بالله تعالى مباشرة، كما قال تعالى على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلَّم: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) (الكهف: 110)، وأعلن عن المساواة في الإنسانية دون تمييزٍ دينيٍّ أو عِرقيٍّ أو لغوي، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: 70)، واعتبر السُّلطة تكليفاً وليست تشريفاً، وأنها مسؤولية وليست مِلْكية، وأنَّها إجارة وليست إمارة، وأنَّ علاقة الإنسان بالسُّلطة هي علاقة تعاقدية بالتراضي بين الحاكم والمحكوم، تجمع بين الحرية والمسؤولية، كما قال صلى الله عليه وسلَّم: «كلُّكم راع وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته..»، وتنضبط فيها الطاعة والولاء بالشرعية، كما قال أيضاً: «.. إلاَّ مَن أخذها بحقِّها..»، ويتوازن فيها الحقُّ مع الواجب بالمشروعية في الأداء، كما قال: «.. وأدَّى الذي عليه فيها..».
وقد أرسى سيدنا أبو بكر الصِّديق رضي الله عنه قواعد هذا الفقه السياسي في العلاقة بين الحاكم والمحكوم بقوله: «وُلِّيتُ أمرَكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنتُ فأطيعوني، وإن أسأتُ فقوِّموني، ألاَ لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإنْ عصيتُ فلا طاعة لي عليكم»؛ وهو ما يعني تفكيك بنْية النظام الاستبدادي ولو كان باسم الدِّين، وفكُّ الارتباط بين الإنسان والسُّلطة والألوهية.