وقفنا في الحلقة السابقة عند تكذيب ابن خلدون لعدد أفراد جيوش بني إسرائيل، حيث قيل: إنهم كانوا ستمائة ألف أو يزيدون، والذي لا يتفق مع سعة الممالك ولا مع القوانين الحاكمة لما تستطيع الدول أن تنفقه على جيوشها، وأورد أسباباً لبطلان هذا الخبر.
قال: «وإن زعموا أن عدد تلك الجيوش إنما كان في زمن سليمان ومن بعده، فبعيدٌ أيضاً، إذ ليس بين سليمان وإسرائيل إلا أحد عشر أباً، ولا يتشعب النسل في أحد عشر من الولد إلى مثل هذا العدد الذي زعموه، اللهم إلى المئين والألوف، فربما يكون، وأما أن يتجاوز ما بعدهما من عقود الأعداد فبعيد»، فهو يؤكد أنه حتى لو بعد أحد عشر جيلاً -أي في زمني النبيين موسى وسليمان- لا يمكن أن يصل إلى ذلك العدد البعيد.
قال: «واعتبر ذلك في الحاضر الشاهد والقريب المعروف، تجد زعمهم باطلاً ونقلهم كاذباً، ننظر في زمننا»، فهو يُعمل القياس، لأن طبيعة البشر في الإنجاب واحدة، متقاربة، فإذا كان في أجيالنا يستحيل في أحد عشر جيلاً أن نصل إلى هذه الأعداد فيستحيل أيضاً أن يكونوا هم قد وصلوا إلى هذه الأعداد.
قال: «والذي ثبت في الإسرائيليات أن جنود سليمان كانت اثني عشر ألفاً، خاصة وأن مقرَّباته كانت ألفاً وأربعمائة فرس مرتبطة على أبوابه»، وعندما يتحدث العالم المسلم الرصين كابن خلدون عن «الإسرائيليات» فهو يعني مظنة التحريف والكذب ومظنة اختراع الأخبار، والأصل عدم صحته، وإذا جاءت الصحة تأتي مصادفة، و«المقرَّبة» هي الفرس القوية التي تستطيع أن تصمد في القتال وتحسن الهجوم والكر والفر، فكانوا يكرمونها ويجعلونها على مقربة من أبواب بيوتهم ليكرموها في دخولهم وخروجهم، وينظرون إليها.
قال: «هذا هو الصحيح من أخبارهم، ولا يلتفت إلى خرافات العامة منهم، وفي أيام سليمان عليه السلام، كان عنفوان دولتهم واتساع ملكهم، هذا وقد تجد الكافة من أهل العصر إذا أفاضوا في الحديث عن عساكر الدول التي لعهدهم أو قريباً منه، وتفاوضوا في الأخبار عن جيوش المسلمين أو النصارى، أو أخذوا في إحصاء أموال الجبايات وخرج السلطان ونفقات المترفين وبضائع الأغنياء الموسرين، توغلوا في العدد وتجاوزوا حدود العوائد وطاوعوا وساوس الإغراب».
والإغراب هو الإتيان بغريب الأخبار، ولو عاش ابن خلدون في أزماننا تلك، لعرف أن ما كان يراه شيئاً غريباً، قد وقع، وأن هناك أفراداً في الأمم والدول يملكون ما كانت تملكه دولة بكاملها في قرون بقائها، بسبب فساد الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
الولع بالغرابات
قال: «فإذا استكشف أصحاب الدواوين عن عساكرهم، واستنبطت أحوال أهل الثروة في بضائعهم وفوائدهم، واستجليت عوائد المترفين في نفقاتهم، لن تجد معشار ما يعدونه، وما ذلك إلا لولوع النفس بالغرائب وسهولة التجاوز على اللسان والغفلة عن المعقب والمنتقد، حتى لا يحاسب نفسه على خطأ ولا عمد ولا يطالبها في الخبر بتوسط ولا عدالة، ولا يرجعها إلى بحث وتفتيش فيرسل عنانه ويسيم في مراتع الكذب لسانه، ويشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الحق، وحسبك بها صفقة خاسرة».
إن الناس مولعة بالغرابة، وفي صغري كان هناك وعاظ، يزعمون أن في الجنة طائراً له سبعون منقاراً، وفي كل منقار سبعون ألف لسان، وفي كل لسان سبعون ألف لغة، منشغل فقط بتسبيح الله تعالى، ولما رجعت إلى والدي، رحمه الله، ضحك وعلمت ببطلان ما ذكر هؤلاء الوعاظ، وعلى مر الزمان كلما وجدت أشياء كتلك، أضحك على من كان يرعبنا بالطائر ذي السبعين ألف لسان!
وبنفس المنطق، يحذرنا ابن خلدون من ولع النفس بالغرائب وسهولة التجاوز على اللسان والغفلة عن المعقب والمنتقد، أو كما يقولون عندنا بمصر في الأمثال الشعبية: «الكلام ليس عليه جمرك»، وهو مخالف لقوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18)، ولنصيحة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما قال له: «أمسك عليك لسانك»، وحذره بقوله: «وهل يكُبُّ الناسَ في النارِ على وجوههم (أو قال على مَنَاخِرِهم) إلا حَصائدُ ألسنتِهِم؟»، فاللسان خطير للغاية.
وأضاف ابن خلدون -في نسخ أخرى غير النسخة المحققة التي نعمل عليها للأستاذ إبراهيم شبوح- أن هناك قولاً آخر يؤكد أن هذا كان معجزة لبني إسرائيل بوعد الله لأنبيائهم الأولين بأن تكون ذريتهم بعدد نجوم السماء وحصى الأرض، والمعجزة حينئذ لا تحكمها القوانين البشرية ولا يدخلها قياس الحاضر بالماضي، وبرر ذلك بأن ذلك ورد في التوراة، وهو خطأ لا بد من الوقوف عنده.
قال ابن خلدون: «وإن عارض أحد بالطعن على خبر ذلك (يقصد المعجزة)، وأنه إنما ورد بالتوراة، واليهود قد بدَّلوها على ما هو معروف، فالقول بهذا التبديل مرجوح عند المحققين وليس على ظاهره؛ لأن العادة مانعة من اعتماد أهل الأديان ذلك في صحفهم الإلهية، كما ذكره البخاري في صحيحه، فيكون هذا النمو الكثير في بني إسرائيل معجزة خارقة للعادة، وتبقى العادة مانعة من ذلك في غيرهم على حكم دلالتها».
وهذا خطأ شنيع من ابن خلدون رحمه الله، نتحفظ عليه، ونرفضه، وقد بحثت في البخاري فلم أجد إشارة لما ذكره من أن كتب الأديان السابقة لم تبدل، خاصة أن القرآن الكريم نص على أنها بدلت، قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 78).
وإن أ.د. علي عبدالواحد وافي في تحقيقه للمقدمة، انتقد ابن خلدون، في هذا الموضع، موضحاً أن القرآن نص على تحريفها، وأن البحوث اللغوية والتاريخية الحديثة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن الأسفار الخمسة التي يطلق عليها التوراة من عمل اليهود أنفسهم وأنها كتبت في عصور مختلفة وأن أقدمها كتب بعد موسى بأربع قرون.
إذن، كلام ابن خلدون، رحمه الله، في هذه الفقرة خطأ كله، فلا يوجد معجزة ولا كتب اليهود صحيحة، ولا يوجد بشر معصوم، ولا أحد يمتلك الصواب دائماً، والكل قد يقع في الخطأ، ومنهم ابن خلدون رحمه الله.