يرتبط الإعلام الإسلامي بحرية الشعوب، انتشاراً وانحساراً قوة وضعفاً بل وجوداً وعدماً؛ فهو وثيق الصلة قريب العلاقة مع الحرية، يتمدد عندما تظهر بوادرها وتزداد وتيرتها، وينكمش ويتراجع أثره عندما تتراجع أو يخفت وجودها.
واستقراء الواقع والتاريخ يضع بين أيدينا كثيراً من التجارب والحقائق بما يدفعنا إلى القول: إن هذا الارتباط يرقى إلى كونه ارتباطاً تبادلياً ومصيرياً؛ حيث يسعى الإعلام الإسلامي لصناعة الحرية وتوسيع هامشها وتبشير الشعوب بها، وفي الوقت ذاته ينمو الإعلام الإسلامي ويتزايد أثره في ظل مناخ الحرية، وهو بذلك يشارك في صناعة الحرية ويكون –أيضاً- نتاجاً لها سواء بسواء.
والشواهد في التاريخ الحديث والمعاصر حول هذه العلاقة الأصيلة مطردة متزايدة، تصل إلى حد التواتر وتبلغ مكانة الحقيقة المجردة، بل وتملك من الدلائل ما يؤكدها ويدفع لتصديقها وتوليد قناعة راسخة بها.
مع البدايات المبكرة للإعلام الإسلامي في أوائل القرن العشرين، حيث كان هامش الحريات العامة والسياسية واسعاً بفعل تأثيرات كثيرة ومتعددة، شهد الإعلام الإسلامي صعوداً ملموساً وانتشاراً واسعاً؛ فقد تواكبت نشأة الصحافة في بواكيرها ونشأتها الأولى مع مرحلة الحراك الإسلامي باتجاه توحيد الشعوب الإسلامية والسعي الحثيث لتحريرها من المشروع الاستعماري وكافة مفاهيم الاستبداد، وهو المشروع الذي قاده -حينها- عدد من رواد الإعلام الإسلامي، وفي مقدمتهم السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشيخ رشيد رضا.
واستمرت هذه الحركة باتجاه مشروع تحرير الشعوب الإسلامية كفكرة حققت نجاحات جيدة على مستوى النخبة –متذرعة بالدور الإعلامي الرائد- إلى أن تأسست في العام 1928م جماعة الإخوان المسلمين -كبرى الحركات الإسلامية- على يد الشيخ حسن البنا، لتنقل الفكرة من النخبة إلى الشعوب بكافة أطيافها ومكوناتها، من خلال حراك إعلامي واسع النطاق متزامناً مع إنشاء «تنظيم» محكم استهدف حماية الفكرة وسعى لنشرها على المستوى الشعبي؛ الأمر الذي أهّل المشروع لأن يخطو خطوات هائلة، وينطلق من المحيط المصري سريعاً إلى المحيط العربي والإسلامي والعالمي.
وقد ساعد مناخ الحريات العامة السائد حينها في الانطلاقة الإعلامية لجماعة الإخوان المسلمين؛ حيث أسست الجماعة وشاركت في عدد كبير من الصحف والمنابر الإعلامية التي تعبر عن فكرتها الإسلامية ومشروعها الحضاري؛ حيث شاركت في بواكير أيامها بالإسماعيلية بالنشر في مجلة «الفتح» التي أصدرها محب الدين الخطيب، و«مجلة الشبان المسلمين»، ومجلة «المنار» التي أسسها محمد رشيد رضا.
ثم أسست جماعة الإخوان المسلمين بعد ذلك عدداً من الصحف مثل «جريدة الإخوان المسلمين»، ومجلة «النذير»، واستأجرت مجلات «النضال» و«الشعاع» و«التعارف»، ثم أصدرت جريدتها اليومية «الإخوان المسلمون»، ومجلة «الشهاب» الشهرية.
وشجعت الجماعة أفرادها على امتلاك صحف خاصة؛ فأسس عدد منهم مجلات مثل مجلة «الكشكول الجديد»، ومجلة «منبر الشرق»، ومجلة «المباحث»، ومجلة «الدعوة الإسلامية»، ومجلة «المسلمون» الشهرية، إضافة إلى مئات النشرات الدورية وغير الدورية والمنشورات والمطبوعات وآلاف الخطب والمحاضرات والمؤتمرات التي ساهم فيها البنا بنصيب وافر.
وقد انشغلت كافة أدوات الإعلام الإسلامي في ذلك الوقت بقضية تحرير الشعوب من الاستعمار والاستبداد كبداية أولى ولازمة لبناء المشروع الحضاري الإسلامي الذي يتأسس على تحرير العباد من عبادة العباد ليكونوا مؤهلين لعبادة رب العباد.
كما اهتمت الصحافة الإسلامية في هذه الفترة بقضايا الأمة وتفاعلاتها، مركزة على حرية الشعوب المستضعفة خاصة الإسلامية التي لا تجد من يساند قضاياها العادلة، وفي مقدمتها البوسنة والهرسك، ومسلمو شرق أفريقيا، ومسلمو الحبشة، وعرب زنجبار، ومسلمو الهند.
كما شكل الاهتمام بالقضية الفلسطينية ركناً رئيساً في الإعلام الإسلامي، سواء في هذه المرحلة التي شهدت بداية تنفيذ مشروع استعماري جديد في المنطقة، أو في المراحل التي جاءت بعدها، لتكون القضية الفلسطينية حجر الزاوية لكافة المنابر الإعلامية الإسلامية.
واستمر الزخم الإعلامي للحركة الإسلامية المعاصرة ساعياً لتحرير الشعوب إلى أن تم مصادرة الحريات في حقبة الخمسينيات والستينيات التي غابت فيها شمس الحرية، وغاب معها الإعلام الإسلامي قسراً، وغاب معها الإعلام الحر المعبر عن الشعوب.
منحنيات ما بعد السبعينيات
مع الانكسار النسبي لموجة الاستبداد ومصادرة الحريات في بداية السبعينيات من القرن العشرين، بدأ الإعلام الإسلامي يسترد عافيته حثيثاً، فعادت مجلة «الدعوة» من جديد، وظهرت معها مجلة «الاعتصام»، ومجلة «المختار الإسلامي»، واتسعت حركة النشر من خلال تأسيس عدد من دور النشر، وانطلقت المنابر والخطب والمحاضرات في طول البلاد وعرضها.
إلا أن هامش الحرية تراجع من جديد ليتأثر بذلك الإعلام الإسلامي ويخفت أثره في مطلع الثمانينيات، ثم يسعى في التسعينيات والعشرية الأولى من الألفية الجديدة لإحداث ثغرات محدودة في جدار الاستبداد الذي خيم على البلاد حينها.
وقد أثمرت تلك المحاولات ظهور تجارب استطاع بعضها أن يصنع لنفسه مساحة تواجد؛ فكانت تجربة صحيفة «آفاق عربية»، وصحيفة «الشعب»، بالإضافة إلى عدد من المشاركات في عدد من الإصدارات المتاحة حينها، إلى أن أتاحت التكنولوجيا الحديثة ثغرة جديدة نفذ الإعلام الإسلامي من خلالها بكل قوة، وحفر فيها سبقاً فاق كافة القوى والتيارات الفكرية من خلال تأسيس عشرات المواقع الإلكترونية، حيث صدحت جميعها بحرية الشعوب.
واليوم تخسر الشعوب الإسلامية –بعد تراجع الحرية بفعل الثورات المضادة- كثيراً من روافعها التي تدفع بها إلى محيط الاستقلال الحضاري في سياق جهود جبارة تبذل لحجب الحرية عن الشعوب مع محاولات لحجب الإعلام الإسلامي عن الوجود.
بل إن الواقع يؤكد أن القضية الفلسطينية -التي تمثل حجز الزاوية للأمة الإسلامية وشعوبها- تحظى بزخم إعلامي وشعبي واسع مع استقرار الإعلام الإسلامي وانطلاقه، بينما تتأثر سلباً مع تراجع الإعلام الحر الذي يقع الإعلام الإسلامي في القلب منه.
وستظل حالة التأثير والتأثر المتبادل بين حرية الشعوب وانطلاقها نحو مشروعها الحضاري، والإعلام الإسلامي متسقة باعتبارها علاقة تكوينية تبادلية، حيث يظل الإعلام الحر معبراً عن أشواق الشعوب مرتهناً بإرادتها.