ينتقد ابن خلدون خرافات جديدة -بحسب تعبيره- امتلأت بها كتب التاريخ، ومنها ما نقله بعض المؤرخين في أخبار “التبابعة” ملوك اليمن وجزيرة العرب، وهم من ملوك اليمن مثل الأكاسرة ملوك فارس، ويرجع تسميتهم بذلك إلى أنهم كانوا يتبع بعضهم بعضاً، وقيل: إنهم كانوا سبعين ملكاً، كل منهم يتبع من سبقهم وكلهم من سلالة واحدة، ولهم قبيلة من القبائل سميت “التبابعة”.
قوم تبع ذُكروا في القرآن الكريم مرتين: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ (الدخان: 37)، ﴿وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ (ق: 14)؛ فكانوا من المكذبين، واقترن ذكرهم بالوعيد والعذاب على ذلك التكذيب.
قال ابن خلدون: «ومن الأخبار الواهية للمؤرخين ما ينقلونه كافة في أخبار التبابعة ملوك اليمن وجزيرة العرب أنهم كانوا يغزون من قراهم (عاصمتهم) باليمن إلى أفريقية (تونس) والبربر من بلاد المغرب، وإلى الترك وبلاد التُّبُت (توجد في آسيا ونسميها التِّبِت) من بلاد المشرق، وأن أفريقش بن قيس بن صيفي من أعاظم ملوكهم الأُوَّل»، وأسماء الملوك كثيرة ولا دليل على وجودها كما ذكر ابن خلدون لاحقاً.
قال ابن خلدون: «وكان -يقصد أفريقش- لعهد موسى عليه السلام أو قبله بقليل، غزا أفريقية وأثخن في البربر، وأنه الذي سماهم بهذا الاسم حين سمع رطانتهم، وقال ما هذه البربرة، فأُخِذ هذا الاسم عنه ودُعوا من يومئذٍ به، وأنه لما انصرف عن المغرب حجز هنالك قبائل من حمير، فأقاموا بها واختلطوا بأهلها، ومنهم صنهاجة وكتامة ومن هذا ذهب الطبري والجرجاني والمسعودي وابن الكلبي والبيهقي، أن صنهاجة وكتامة من حمير، وتأباه نسابة البربر وهو الصحيح».
اختراع القصص
ويتهم ابن خلدون هؤلاء المؤرخين بعدم الدقة واستمرار اختراع القصص والحكايات، مؤكداً أن حفاظ الأنساب من القبائل البربرية التي تسكن في منطقة المغرب العربي أَبَوا أن تكون هذه القبائل عربية الأصل، فهؤلاء ليسوا بعرب ولا هذا الرجل مع صنهاجة وكتامة.
قال ابن خلدون: «وذكر المسعودي أيضاً أن ذا الأذعار من ملوكهم بعد أفريقش، وكان على عهد سليمان عليه السلام غزا المغرب ودوخه، وكذلك ذكر مثله عن ياسر ابنه من بعده، وأنه بلغ وادي الرمل في بلاد المغرب، ولم يجد فيه مسلكاً لكثرة الرمل فرجع، وكذلك يقولون في تبع الآخر وهو أسعد أبو كرب، وكان على عهد يستاسف من ملوك الفرس الكيانية، وأنه ملك الموصل وأذربيجان، ولقي الترك فهزمهم وأثخن فيهم، ثم غزاهم ثانية وثالثة، وأنه بعد ذلك أغزى ثلاثة من بنيه بلاد فارس وإلى بلاد الصغد (سمرقند الآن) من أمم الترك فيما وراء النهر، وإلى بلاد الروم.. وهذه الأخبار كلها بعيدة عن الصحة وعريقة في الوهم والغلط وأشبه بأحاديث القصاص الموضوعة».
يشبه ابن خلدون هؤلاء المؤرخين بالقُصاص، ولدينا في التراث الإسلامي ما يسمى “روايات القُصَّاص”، وهم من يجلسون في المساجد والموالد وما إلى ذلك يحكون قصص الأنبياء والسير، بلا أصل معروف، حتى كُتِبت فيهم كتب كثيرة، منها: “تحذير الخواص من أكاذيب القصاص” لابن الجوزي، الذي حققه أخونا العلاَّمة د. محمد الصباغ، رحمه الله تعالى، وللأسف ما زلنا نعاني منهم حتى الآن، حيث تناسوا أن الكلمة أمانة ومسؤولية، وأن التحقق من أي رواية واجب شرعي وأخلاقي.
قال ابن خلدون: «وذلك أن ملك التبابعة إنما كان بجزيرة العرب، وقرارهم وكرسيهم بصنعاء اليمن، وجزيرة العرب يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها؛ فبحر الهند من الجنوب، وبحر فارس الهابط منه إلى البصرة من المشرق، وبحر السويس الهابط منه إلى السويس من أعمال مصر من جهة المغرب كما تراه في مصور الجغرافيا؛ فلا يجد السالك من اليمن إلى المغرب طريقاً من غير السويس، والمسلك هناك ما بين بحر السويس والبحر الشامي قدر مرحلتين فما دونهما، ويبعد أن يمر بهذا المسلك ملك عظيم في عساكر موفورة، من غير أن تصير من أعماله».
وهذا نموذج واضح للتحليل الخلدوني للتحقق من صدق الأخبار أو كذبها؛ فهو لا يحقق الصدق أو الكذب بمجرد صدق الرواة أو كذبهم، ولذلك لجأ ابن خلدون إلى تكذيب الأخبار أو تصديقها بالواقع الجغرافي والسياسي والاقتصادي والتاريخي والوقائع التي لا يمكن أن تكذب، حتى يتحقق باليقين صدق كلامه وكذب المؤرخين الآخرين.
وأوضح ابن خلدون أن جزيرة العرب على الخرائط محاطة بالبحار من جهاتها الثلاث، وأن عبور هذه البحار يأخذ مراحل ووقتاً، وتقدر المرحلة الواحدة بنحو 30 كيلومتراً يقطعها الإنسان الراكب دابته بنحو يوم، فقال: إن المسافة بين بحر السويس (البحر الأحمر)، وبحر الشامي (البحر الأبيض المتوسط) قدر مرحلتين؛ أي يومين إلا قليلاً، وبالتالي لا يعقل أن يمر ملك بجيوشه بهذه المواقع في يومين وقد فرض سيطرته عليها.
قال ابن خلدون: «هذا ممتنع في العادة، وقد كان في تلك الأعمال العمالقة وكنعان بالشام والقبط بمصر، ثم ملك العمالقة مصر وملك بنو إسرائيل الشام، ولم ينقل قط أن التبابعة حاربوا أحداً من هؤلاء الأمم ولا ملكوا شيئاً من تلك الأعمال، وأيضاً فالشُّقة من اليمن إلى المغرب بعيدة، والأزودة والعلوفة للعساكر كثيرة، فإذا ساروا في غير أعمالهم احتاجوا إلى انتساف الزرع والنعم، وانتهاب البلاد فيما يمرون عليه.. وإن قلنا: إن تلك العساكر تمر بهؤلاء الأمم من غير أن تهلكهم فتحصل لهم الميرة بالمسالمة، فذلك أيضاً أبعد وأشد امتناعاً؛ فدل هذا على أن هذه الأخبار واهية أو موضوعة».
وابن خلدون استبعد بمنطقه التحليلي الرصين أن جيشاً مر بكل هذه البلاد وسط مسالمة تعطي للغازي الميرة (الطعام) من أزودة (قوت الجند) وعلوفة (طعام البهائم) دون قتال، وهو أمر غريب ولا يحدث، ويشدد على أن تلك الأخبار لو نقلت إلينا بأسانيد رجال صادقين لكذبناها؛ لأنها مخالفة للواقع الذي نرصده ونراه.
قال ابن خلدون: «.. فالأخبار بذلك واهية مدخولة، وهي لو كانت صحيحة النقل لكان ذلك قادحاً فيها، فكيف وهي لم تنقل من وجه صحيح».