يحتفل العالم في الثامن من مارس كل عام بـ«اليوم العالمي للمرأة»؛ تكريمًا لها وإشادة بدورها، في محاولة للارتقاء بها في المجتمعات التي تتعرض فيها للإهمال والاضطهاد، ويتجاهل ما تتعرض له المرأة الفلسطينية من انتهاكات لا يستوعبها عقل؛ حيث تعيش وطأة حصار قاتل، واغتصاب الأرض، وهدم البيت، والفصل بين أسرتها بجدار عازل في الضفة الغربية، واعتقالها وإبعادها.
وقد اعتقل الاحتلال الصهيوني منذ عام 1967 حتى اليوم (عام 2023) أكثر من 16 ألف فلسطينية في مختلف الأعمار والمستويات الاجتماعية، فمنهن الأمهات، والفتيات والقاصرات، وقد قضت كثيرات منهن في سجون الاحتلال سنوات تصل إلى 15 سنة مثل لينا الجربوني، وغيرها كثيرات.
إن الأسلوب الذي يتبعه الاحتلال الصهيوني عند اعتقال المرأة الفلسطينية وتعذيبها يفوق الوصف، وأساليبه ليس لها حصر؛ تبدأ بالتخويف والسباب والضرب ونزع الحجاب وتعرية الجسد، وتنقل الأسيرة إلى التعذيب البدني والنفسي بأبشع الوسائل أثناء التحقيق؛ فالمكان الذي تحتجز فيه معد ليكون البقاء فيه وحده وسيلة تعذيب في زنزانة مترين تحت الأرض بلا فتحتات تهوية، مظلمة كالقبر تمكث فيه الأسيرة؛ لا تدري الليل من النهار، وهو في مراكز تحقيق: «الجلمة»، و«المسكوبية»، و«عسقلان»، ثم تنتقل إلى حجرات التحقيق، ويتبع معها وسائل التعذيب كالضرب والسب القبيح، والشبح ، والجلوس على كرسي وهي مكبلة اليدين والرجلين لساعات طويلة، وتهدد بالاغتصاب أو القتل، وهدم المنزل.
عاشت الأسيرات ألوانًا من التعذيب البدني النفسي يندى لها حبين الإنسانية، ويصعب علينا حصر صمود الأسيرات، لذا سنأخذ أمثلة منهن بالأمس القريب واليوم.
أولاً: أسيرات الأمس القريب:
– الأسيرة عطاف عليان من بيت لحم، قضت في السجن 10 سنوات (1987 – 1997)، وخضعت للتحقيق في معسكر «المسكوبية» في القدس المحتلة، تعرضت لمحاولة خلع حجابها خلال فترة التحقيق، فأعلنت الإضراب عن الطعام والشراب والكلام مدة 12 يومًا حتى تعهدوا بعدم المساس بحجابها مجددًا، وانتقلوا معها إلى التعذيب النفسي؛ فأصعب المواقف التي عايشتها -كما تقول- أنها في إحدى مرات الاعتقال قضت مدة 40 يومًا في التحقيق لم يسمحوا لها بتغيير ملابسها، ولا تقديم الفوط الصحية، فأجبرت على استخدام قطع من القماش، ثم نقلت إلى سجن الرملة في العزل الانفرادي مدة 4 سنوات؛ فأضربت عن الطعام مدة 34 يومًا رفضًا لعزلها، واستطاعت العودة إلى الأقسام، وأفرج عنها في فبراير 1997، وأعيد اعتقالها إداريًا بدون تهمة أو محاكمة في أكتوبر من العام نفسه، فأضربت عن الطعام حتى تم الإفراج عنها، وأعيد اعتقالها 9 أشهر عام 2002، وأعيد اعتقالها مدة 3 سنوات (2005 – 2008) بعيداً عن ابنتها عائشة التي لم تبلغ 6 أشهر، فطالبت بضم ابنتها؛ فلم يستجيبوا لها، فأضربت عن الطعام حتى استجابت إدارة السجن، وتمكنت من احتضان ابنتها داخل السجن، وتؤكد أنها ما زالت تحمل كل المواقف والتفاصيل المؤلمة في ذاكرتها، فالظلم لا يُنسى، وأن فترات اعتقالها المتعاقبة لم تمر بسهولة.
– تقول الأسيرة سمر صبيح من طولكرم عن فترة التحقيق في زنزانة مظلمة في معسكر المسكوبية: كنت أعرف مواعيد الصلاة بإلهامٍ رباني، فقد دخلت السجن في تاريخ 29/ 5/ 2005 في الثالثة فجرًا، وحسبت بعد ساعة من دخولي السجن سيؤذن الفجر، وبعد 6 ساعات يكون الظهر، وهكذا بقيت أحسب لمدة 66 يوماً تحت الأرض، لم أخرج منها سوى للتحقيق، ناهيك أن ما يقدمونه من طعام مُقرِف للغاية يتعمدون وضع الصراصير عليه!
– تقول الأسيرة فاطمة الزق من غزة المعتقلة في مركز تحقيق عسقلان عام 2009: كنت أموت آلاف المرات؛ لأن الزنزانة تفتقد للنور والأكسجين، وكانت زنزانة موت، فالأوساخ على الجدران، ورائحة دخان السجائر والصرف الصحي تملأ المكان.. في الفترة الأولى من التحقيق لم أذق للنوم طعمًا.. ولكن هيهات لهم، فلم أتفوه بأي كلمة تؤذي أحدًا من المجاهدين، وكنت أواصل الدعاء وقراءة القرآن، وحمدت الله على أنه أمدني بالقوة والصبر وبثقتي بنفسي وبثباتي.
ثانيًا: صمود أسيرات اليوم (2023):
ما تزال بالسجون الصهيونية أكثر من 30 امرأة في سجن «الدامون» و«بيتح تكفا»؛ تم الحكم عليهن بأحكام عالية في السنوات الأخيرة (2015 – 2022)؛ نصفهن تقريباً من القدس يقضين أحكامًا عالية كالتالي:
8 سنوات لـمرح باكير، ونوال محمد عبد فتحية، و10 سنوات لـنورهان عواد، وملك سليمان، وأماني الحشيم، وفدوى حمادة، وإسراء جعابيص (11 سنة)، وعائشة الأفغاني (15 سنة)، وشروق دويات (16 سنة).
أما الأسيرات من الأراضي الفلسطينية اللاتي اعتقلن في تلك الفترة: ميسون الجبالي من بيت لحم (15 سنة)، وروان أبو زيادة من رام الله (9 سنوات)، وشاتيلا أبو عيادة من كفر قاسم (16 سنة).
هذا فضلاً عن المعتقلات إدارياً بدون تهمة أو حكم ويخضعن لتجديد الحبس باستمرار، وقد اعتقلن في العامين الآخرين (2021 – 2022)، ومنهن الأم الأسيرة عطاف جرادات من جنين، وهي أم لـ9 أبناء، منهم 3 أسرى، هم: عمر، وغيث، ومنتصر جرادات، وتعرض منزلها للهدم مدة اعتقالها.
وهن جميعًا رمز للصمود والثبات، ولا يمكن أن تستوعب نضالهن تلك السطور، لذا سنأخذ نموذجًا للثبات والصمود منهن:
– الأسيرة شاتيلا أبو عيادة من كفر قاسم (فلسطين المحتلة سنة 1948) بالرغم من التعذيب الذي تعرضت له، وروت لأسرتها مرارة التعذيب المتواصل خلال زيارتهم لها، فإنها لم تُرِ أعداءها ضعفها وآلامها الذي تعمد إظهارها أمام الكاميرات أثناء جلسات المحاكمة، فكانت تواري وجهها خلف حجابها عن الإعلام العبري، وتدخل المحكمة وهي ترفع إصبعها السبابة، ورفضت الدخول إلى مركز التحقيق دون حجاب بعد أن مزقه جنود الاحتلال، ولفت جسدها وشعرها بالمناديل الورقية، ورفضت أن تتحول قضيتها من «أمنية» إلى «مدنية»؛ حيث إنها تحمل الهوية «الإسرائيلية»، وتستطيع الحصول على حكم مخفّف مدته سنة، وقالت للنيابة الصهيونية ولمن نصحوها بذلك: أنتم سبب ما نحن فيه من ويلات، نحن خرجنا في سبيل الله لندافع عن أنفسنا ضد ظلم الاحتلال.
ومن أمثلة الصمود الجماعي: قيام الأسيرات بالتعايش وتنظيم الوقت بالبرامج التعليمية والترفيهية لرفع الروح المعنوية وتجاوز آثار التعذيب البدني والنفسي والتضييق حتى أقمن مدرسة تعليمية في مختلف العلوم، وقمن باختيار ممثلات لهن للتعامل مع إدارة السجن، واستخدمن الإضراب الجماعي كوسيلة ضغط على السجان كان لها أثر كبير في استجابته لبعض مطالبهم بإلغاء إجراءات القمع، ويتجدد الإضراب كلما تجدد التضييق.
تقوم كل منهن بعرض خبرتها العلمية والحياتية، فكانت لينا الجربوني تعلمهن اللغة العبرية وأحكام التجويد والتفسير والتطريز، وتقوم أماني الحشيم بالتدريس ، وصدر لها مؤخرًا كتاب بعنوان «العزيمة تربي الأمل»، وأقمن معرضًا للمشغولات المطرزة، وتستغل الأسيرات بعض المناسبات للترفيه؛ وتقوم إسراء الجعابيص بعرض مشاهد تمثيلية مضحكة لترسم البسمة على وجوههن بالرغم من آلامها نتيجة الحروق بجسدها التي تتعدى 60% وتسبب لها آلامًا فظيعة بترت نتيجتها أصابع يديها جميعًا، وترفض سلطة الاحتلال علاجها رغم المناشدات المستمرة.
وتعاني الأسيرات جميعًا من أمراض متنوعة، مثل الضغط والسكري، والحساسية، والصداع المزمن، وآلام المفاصل والروماتيزم، وأمراض قلبية ونفسية وعصبية وغيرها.
__________________________
1- زكريا إبراهيم السنوار، ريا جمال الزهار: واقع الأسيرات الفلسطينيات ومعاناتهن في سجون الاحتلال الإسرائيلي، أعمال المؤتمر الدولي لنصرة الأسرى، الجامعة الإسلامية بغزة، كلية الآداب، أبريل2014، ص1-40.
2- علي إبراهيم: المرأة المقدسية صمود في وجه الاحتلال، مؤسسة القدس الدوليّة، مارس 2019.
3- لنا محمد ناجح عبده بولص: الأسيرات الفلسطينيات المحررات بين الدور النضالي والواقع الاجتماعي في الضفة الغربية، رسالة ماجستير، جامعة النجاح الوطنية، نابلس، 2018، ص1-103.
4- مركز المعلومات الوطني الفلسطيني وفا: الأسيرات، على الرابط: https://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=9666.
5- ميس أبو غوش: سجن الدامون: واقع الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال، موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، على الرابط: https://www.palestine-studies.org/ar/node/1652317.
(*) دكتوراة في التاريخ والحضارة الإسلامية.