المقصود بـ«جيل الإنترنت» (Net Generation) هم من وُلدوا بعد عام 1990 ليعاصروا حقبة الشبكة العنكبوتية التي يؤرخ لها من عام 1998 إلى الآن، ويُطلق عليهم أيضًا «جيل الألفية الثالثة»، أو «جيل القرن الحادي والعشرين»، أو «الجيل الرقمي»، الذي يشهد ويتفاعل مع تطورات هائلة في وسائل الاتصال والمعلومات وتطبيقاتها، ولغته في ذلك هي «اللغة الرقمية» بكل ما تحتويه هذه اللغة من مداخل ورموز صاروا يتقنونها.
وهناك فروقات جوهرية بين هذا الجيل ومن سبقه من الآباء والأجداد، جعلت بين الجيلين خلافات عميقة حتى أطلق بعض الباحثين لفظ «المهاجرين» على الأجيال السابقة؛ لما يشعرون به -حسب دراسات- بالغربة بين أبنائهم، وعجزهم عن التفاعل معهم مثلما كان حالهم مع آبائهم، وهذا الجيل هم المستخدم الرئيس لوسائل التواصل الاجتماعي، والغالبية العظمى لمرتاديها.
في ذكرى اليوم العالمي لوسائل التواصل الاجتماعي (30 يونيو 2022) بلغ عدد مستخدمي هذه الوسائل النشطين 4.72 مليارات مستخدم في اليوم الواحد؛ أي 62% من سكان العالم تقريبًا، أما أكثر الفئات العمرية استخدامًا لها فهي فئة الشباب (18 – 29 عامًا)؛ حيث يقضي كل شخص من هؤلاء -في المتوسط- نحو 3 ساعات من وقته يوميًّا على منصات التواصل المختلفة.
إننا، إذن، أمام عالم من المدعوين يُقدَّر بالمليارات، وهو ما لم يحدث في التاريخ، وأمام فرص هائلة لإدخال الإيمان في قلوب الكافرين، وإيقاظ الغافلين الشاردين؛ ما يبشِّر بقرب تحقق حديث النبي ﷺ: «ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهارُ، ولا يترك اللهُ بيتَ مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله اللهُ هذا الدينَ بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليل»، وهذا يقتضي دخول الجميع برسوخ إلى هذه الساحة، والتعرّف على مميزاتها والاستفادة منها، وإحداها عِوضٌ عن عشرات من الوسائل القديمة؛ من حيث: التفاعلية، وسهولة الاتصال، وسهولة تخزين المعلومات، وسعة الانتشار.. إلخ، وهذه فرصٌ لجذب الشباب، والرد على الشبهات، وبيان سُبل السلام.
وللأسف، لا يزال نصيب الدعوة الإسلامية على الشبكة العنكبوتية هزيلاً، مقارنة بالديانات الأخرى؛ إذ تستحوذ على عُشر ما تستحوذ عليه المسيحية التي تبتلع 62% من الصفحات الدينية على «الإنترنت»، وإلى الآن لم نسمع عن مواقع عربية رسمية موثوقة تردّ الهجوم على الإسلام الذي تشنه آلاف المواقع المعادية، بل رأينا موانع وقيودًا بالجملة أمام مبادرات شعبية لتبني هذا الدور وتصحيح صورة الإسلام على الشبكة التي تموج بالأفكار التي يعادي جلُّها الإسلام والمسلمين.
لكن، يبقى الداعية الأريب الذي يستغل هذا الفضاء الهائل في حصد الفرص الدعوية، والاستعانة بالجهود المتاحة التي لا تُحصى في الوصول إلى أكبر عدد من المدعوين، وهدايتهم إلى طريق الله المستقيم، وألا يتخذ «الإنترنت» وسيلة للتكسُّب أو المنافسة على نسب المشاهدة، ومفتاح النجاح في هذا الأمر القدوة؛ فإن مكانة الداعية الآن -وبعد هذه التطورات- تتوقف على إخلاصه وفهمه وحكمته، وكم سقط دعاة لما حسبوا أن المجال الفضائي كمجال المسجد أو المحاضرة، أو أن الأتباع هم الأتباع، إطلاقًا؛ فإن الفرص أمام المتلقي الآن متعددة، وهو يستطيع التحول بضربة زر إلى داعية آخر إن لم تتوافر فيك الخصال التي ذكرناها.
ما أكثر الدعاة على الإنترنت، وما أقل من يفيدون الدعوة، رغم وفرة المادة وكثرة المدعوين، لا نقول ينقصهم الإخلاص، إنما ينقصهم الفهم الذي هو أساس كل نجاح، وينقصهم التمييز بين ما كان بالأمس وما هو كائنٌ اليوم، وصدق القائل: «رحم الله رجلاً عرف زمانه فاستقامت طريقته».
يمكن الآن إيجاد عشرات المشروعات الدعوية الناجحة بجهود بسيطة للغاية، غير أنها تتطلب شبابًا من جيل «الأندرويد» الذين يعرفون خبايا منصات التواصل وكيفية الوصول إلى المدعوين والنفاذ إلى المجتمعات المختلفة، ومتى يتقدمون، ومتى يمتنعون وهذه لغة جديدة لا أعتقد أن الأجيال القديمة تستوعبها كما يستوعبها شباب اليوم.
إن خطبة رجل في عشرة أو عشرين رجلاً في المسجد لم تعد ذات أثر مثل «فيديو» قصير يشاهده الآلاف في ساعة أو بعض ساعة، وإن «جروب» على إحدى المنصّات يغني عن مائة مؤتمر أو ندوة على الأرض، هذا يعني ببساطة حتمية صناعة رموز ومن ثم دعمها في الانتشار، وهذا ما يفعله الكثير من الخصوم، والدعم هنا يعرفه الشباب الذين يفهمون ما أقول، وأن هناك لجانًا ترفع من تشاء وتحظر من تشاء.
لقد صارت منصات «الإنترنت» أكبر منافس للمنبر والكتاب، والمسلم الذي كان يجد مشقة قبلها في الوصول إلى داعية واحد يصله الآن حتى مخدعه ومن دون جهد ألف داعية يختار من بينهم من يشاء، ويمكن للمسلمين عمومًا التصدق على دينهم ببعض أوقاتهم في عرض أفكار ورؤى الإسلام التي غابت حتى عن كثير من المسلمين، ويمكنهم إبداع أعمال ومنصات تحتوي مجالات الدعوة كافة من أعمال بر، ومكافحة عُرى، وتوجيه الشباب والنشء، وتمهيد الطريق أمام من ضلوه أو تنكبوه، وإرشاد الحائرين إلى فضل وعظمة هذا الدين.
وإذا كانت ثمة تجارب للدعوة على «الإنترنت» في الفترة الماضية نجح بعضُها وأخفق البعضُ الآخر؛ فلأن هناك مفاتيح للنجاح عند التعامل مع تلك الوسائل أخذ بها الذين أحرزوا تقدمًا وثبَّتوا بها أقدامهم؛ منها أن يكون الداعية قدوة ذا سلوك حسن، متحليًّا بالعلم والعمل معًا، معروفًا بالوعي والحكمة، لا يبرر القبح للوصول إلى غايته، غير متطلع إلى مكاسب شخصية، وأن يكون مؤمنًا إيمانًا عميقًا بما يدعو إليه، واضعًا نُصب عينيه قول الله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108).
______________________________
(*) كاتب صحفي وباحث مصري.