إن تناول حياة الرجال العظماء الذين رسخوا قواعد دعوة الإسلام المعاصرة ليس مادة تطرح من أجل الاطلاع أو التسلية، وإنما مداد من نور يضيء للحيارى طريق الحق، ويثبت قواعد التمسك بدين الله سبحانه.
وفي يونيو رحل الكثير من هذه القناديل المضيئة بعدما تركت بصمات لا تمحى.
لوتاه.. له باع طويل في إنشاء المؤسسات الاقتصادية الإسلامية والتربوية وصاحب بصمات في نهضة دبي
سعيد لوتاه.. مؤسس أول بنك إسلامي
ولد سعيد أحمد بن ناصر بن عبيد آل لوتاه بدبي في دولة الإمارات العربية المتحدة، يوم 1 يناير 1923م، لأسرة عريقة تهتم بالمعرفة والتجارة والأعمال، حيث ترعرع في كنفها ليستقي منها علوم الحياة.
التحق بالتعليم ونال منه حظه قبل أن يتمرس على يدي والده في مجال تجارة اللؤلؤ، التي كانت بداية انطلاقته نحو مفاهيم الاقتصاد الإسلامي والتجارة، والمقاولات، والتربية والتعليم، والبنوك الإسلامية، حيث يعتبر أول من وضع حجر الأساس لأول بنك إسلامي في العالم وهو «بنك دبي الإسلامي» عام 1975م.
كان العم لوتاه ذا همة ونشاط وإيجابية عالية، وصاحب بصمات في نهضة دبي الاقتصادية، ويعد مثالاً للصبر والجَلَد؛ فأسس أول شركة إنشائية في دبي عام 1956م، ثم انطلق في المجال الاقتصادي محافظاً فيه على المنهج الإسلامي، فأنشأ الشركة العربية الإسلامية للتأمين (إياك) عام 1979م، وأنشأ «كلية دبي الطبية للبنات» عام 1986م، و«كلية دبي للصيدلة» عام 1992م، وأسس «جمعية دبي التعاونية» أول جمعية تعاونية استهلاكية بالإمارات عام 1972م.
وفي مجال التربية والتعليم، أنشأ «مؤسسة تربية للأيتام» عام 1982م، و«المدرسة الإسلامية للتربية والتعليم» عام 1983م، كما أنه المؤسس لأول مركز للبحوث البيئية في دبي عام 1992م، وأصبح رئيس المجلس الأعلى لـجامعة آل لوتاه العالمية بالاتصالات الحديثة.
كما شارك في مجالس بلدية دبي لسنين عديدة؛ مرشداً ومفكراً ومهندساً عاملاً في عمران بلده دبي، وتولى رئاسة مجلس الإعمار في دبي.
لم يترك العم سعيد المجالات العملية في الاقتصاد فحسب، بل ترك وراءه إرثاً عظيماً من المؤلفات التي زخرت بها المكتبة الإسلامية في مجال الاقتصاد الإسلامي والتربية والدعوية.
كما اهتم الحاج لوتاه بالعمل على نشر ثقافة الاقتصاد الإسلامي في أنحاء العالم الإسلامي، ومن ثم في العالم أجمع، فقرر، تزامناً مع إنشاء بنك دبي الإسلامي، إصدار مجلة «الاقتصاد الإسلامي» في عام 1981م، لتكون المنبر الإعلامي المتميز الذي ينشر المنهج الإسلامي في الاقتصاد، ولتدعم تجربة المعاملات الإسلامية في بداياتها.
وكان محباً للقرآن الكريم، فكان ملازماً له متأملاً فيه، ولم يؤلف كتاباً إلا وكان مستنبطاً من تأملاته في كتاب الله تعالى.
ظل خلال مسيرة حياته التي ناهزت 97 عاماً عاملاً مصلحاً حتى حصل على العديد من الجوائز التقديرية، إلى أن أسلم الروح لربها يوم الأحد 28 يونيو 2020م(1).
الفندي.. مِن أوائل مَن وضع منهج الإعجاز العلمي في القرآن وله الفضل في إعادة تقديم التراث العلمي للمسلمين
جمال الفندي.. والإعجاز العلمي في القرآن
محمد جمال الدين الفندي، عالم ترك بصمات عظيمة، حيث يعد من أوائل من وضع منهج الإعجاز العلمي في القرآن، كما كان أحد الطلبة الستة الذين أسسوا «قسم الطلبة» بجماعة الإخوان المسلمين عام 1933م.
ولد في 13 مارس 1913م بالسودان، وأتم دراسته بمدرسة عطبرة، ثم انتقل إلى مصر عقب ثورة السودان عام 1925م، وأكمل تعليمه حتى تخرج في كلية العلوم، وتتلمذ على يدي العالم مصطفى مشرفة، وتخرج فيها بتقدير «ممتاز» عام 1935م، وسافر إلى إنجلترا للدراسات العليا، وحصل على دبلوم الأرصاد من جامعة لندن عام 1937م، وأثناء الحرب العالمية الثانية نال درجة الدكتوراة عام 1946م.
عمل في كلية العلوم بجامعة الإسكندرية، قبل أن ينتقل لجامعة القاهرة بين عامي 1956 – 1973م، وفيها أنشأ قسم الفلك والأرصاد بعلوم القاهرة عام 1966م، ووحدة الطبيعة الجوية في المركز القومي للبحوث (وحدة دراسات تلوث الهواء حالياً)، وهو صاحب مدرسة الربط بين العلم والدين.
سافر إلى السعودية للعمل كرئيس قسم الأرصاد بمعهد الأرصاد الجوية بجامعة الملك عبدالعزيز عام 1974 – 1980م.
وبعد عودته اختير عضواً بالمجمع المصري للعلوم، وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، وعضو مجلس جامعة الأزهر، ورئيس الجمعية الفلكية المصرية، والجمعية المصرية للعلوم الجوية، ورئيس لجنة خبراء العلوم بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وترك للمكتبة الإسلامية والعلمية الكثير من المؤلفات، التي أكد فيها أن الإسلام لا يتعارض مع العلم، بل يحض عليه ويشجعه، ونال في سبيل ذلك الكثير من الجوائز التقديرية.
وكان له الفضل في تأسيس مدرسة أصيلة لإعادة تقديم التراث العلمي للمسلمين، وإعادة النظر في المشروعات العلمية لمئات العلماء المسلمين، ومن عطاء هذه المدرسة تأسست «مدرسة البحث في الإعجاز العلمي للقرآن والسُّنة في العصر الحديث».
تعرف الفندي إلى دعوة الإخوان المسلمين في بدايتها، والتقى بالشيخ حسن البنا، وكان واحداً من 6 طلاب أسسوا «قسم الطلبة» في الجماعة، وبعدما سافر لاستكمال دراسته بلندن ورد اسمه ضمن لجنة أهل الشورى للإخوان عام 1939م.
تفرغ الفندي لإبراز الجوانب الإسلامية من خلال مجالاته العلمية، وظل كذلك حتى وفاته في 2 ربيع الآخر 1419هـ/ 26 يونيو 1998م(2).
البدري.. وهبه الله تعالى مَلَكة الخطابة فاستغلها في مقارعة الباطل والدفاع عن الحق حتى استشهد في سبيله
عبدالعزيز البدري.. مصلح في وجه الطغيان
ما من مصلح إلا وأوذي في سبيل الله من أجله دعوته للعمل بمفاهيم الإسلام الشاملة، وعبدالعزيز البدري استشهد في السجون من أجل كلمة الحق.
ولد عبدالعزيز عبداللطيف البدري في قضاء سامراء شمالي بغداد بالعراق عام 1347هـ/ 1929م، وسط أسرة أحبت دينها وتمسكت به وقتما انتشر الفكر الشيوعي ربوع العراق.
درس في سامراء قبل أن ينتقل مع أسرته لبغداد ويتم تعليمه فيها على يدي العديد من علمائها، أمثال الشيخ أمجد الزهاوي، وعبدالقادر الخطيب.. وغيرهما.
وهبه الله تعالى مَلَكة الخطابة؛ مما منحه الفرصة صغيراً في الدعوة والخطابة، وعُين إماماً لمسجد السور في بغداد عام 1949م، ثم جامع الخفافين قبل أن تضطهده حكومة الملك وتبعده لقرية نائية من قرى محافظة ديالى شرق بغداد عام 1954م لجرأته في الحق.
انتمى في بداية حياته لحزب التحرير، قبل أن يقرر الانسحاب منه عام 1956م والعمل من أجل دينه والدفاع عنه ومواجهة الشيوعيين الذين كانوا يهربون من مواجهته أو مناظرته، وقد هاجم عبدالكريم قاسم لاحتضانه الشيوعيين ومحاولة فرض مبادئهم على الشعب العراقي المسلم، وقام بتحريك المظاهرات وقادها ضد قاسم.
ومن أقواله المشهورة أمام الرئيس العراقي الأسبق عارف عبدالسلام، أثناء افتتاح جامع عادلة خاتون: «اسمع يا عبدالسلام، إن تقربت من الإسلام باعاً تقربنا إليك ذراعاً، اسمع يا عبدالسلام طبّق الإسلام»!
عُيِّن خطيباً لمسجد الخلفاء، وقد أغلق منذ عام 1964 حتى عام 1966م؛ فهدد بإلقاء الخطب في الشارع؛ مما اضطر السلطة لتعيّنه إماماً وخطيباً وواعظاً في جامع إسكان غربي بغداد.
بعد نكسة عام 1967م، سافر إلى فلسطين من أجل الجهاد، إلا أن المجاهدين نصحوه بالعودة ونشر القضية الفلسطينية والتوعية بها وسط الناس لعظم أثر ذلك، وبالفعل شكَّل وفداً إسلامياً شعبياً مكوناً من 6 دعاة للطواف حول العالم الإسلامي من أجل استنفار المسلمين، ونقل القضية إلى النطاق الإسلامي تحت عنوان «من أجل فلسطين رحلة الوفد الإسلامي العراقي» فكان له أثر عظيم.
ترك إرثاً عظيماً من المؤلفات وعشرات الخطب، حتى تم اعتقاله من قبل سلطة «البعث» عام 1969م، تعرض خلالها للتعذيب الشديد في معتقل قصر النهاية الذي لم يتحمله جسده؛ فمات يوم 10 ربيع الآخر 1399هـ/ 26 يونيو 1969م، وحمل الجلادون جثمانه وألقوا به أمام بيته، ومنعوا أسرته من دفنه في سامراء، وأغلقوا مداخل ومخارج بغداد حتى دفن قرب قبر شيخه أمجد الزهاوي في مقبرة الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان في الأعظمية شمالي العاصمة بغداد(3).
الهوامش
1- سعيد لوتاه .. ٤٥ عاماً من البذل والعطاء: مجلة الاقتصاد الإسلامي، 24 يوليو 2020، https://bit.ly/3LIvAjW
2- محمد جمال الدين الفندي رائد فكرة الإعجاز العلمي في القرآن: إخوان ويكي، 7 أغسطس 2021، https://bit.ly/3B0kLnn
3- محمد الألوسي: عبد العزيز البدري (العالم، المجاهد، الشهيد)، دار البيارق للنشر والتوزيع، بغداد، 2001م.