دفع الكيان الصهيوني، فجر الإثنين 3 يوليو الجاري، بعملية واسعة بهدف تفكيك حالة المقاومة الناشطة في مخيم جنين، شمالي الضفة الغربية، بعد تهديدات وتسريبات عن ذلك تصاعدت في الآونة الأخيرة، وقد تبين بعد الدفع بهذه العملية، أن جيش العدو قد تدرب عليها سنة كاملة قبل اتخاذ القرار أخيرًا بتنفيذها.
وُصِفت العملية بأنها الأولى من نوعها منذ نهاية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، أو منذ “عملية السور الواقي”، التي انتهت في مايو 2002، وأنهى بها، فعليًّا، رئيس حكومة العدو الأسبق شارون مناطق (أ) من الناحية الأمنية، وكان من معالمها في حينه، معركة مخيم جنين في أبريل 2002. منذ ذلك التاريخ اتخذت إجراءات الاحتلال تجاه أي مظهر للمقاومة في الضفة الغربية، صورة الإجراء الموضعي المحدود نسبيًّا، بيد أن محاولة الاقتحام الواسع أخيرًا لمخيم جنين، هو الإجراء الأوسع منذ “عملية السور الواقي”، فكيف وصلنا إلى معركة مخيم جنين رقم 2، بعد 21 عامًا؟!
الاحتلال سعى بعد انتفاضة الأقصى لإعادة هندسة مجال الضفة الغربية، أمنيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا
بعد نهاية انتفاضة الأقصى، والتي سرّعت “عملية السور الواقي” من نهايتها، سعى الاحتلال مدعومًا من قوى إقليمية ودولية، إلى إعادة هندسة مجال الضفة الغربية، أمنيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، هذه السياسات أخذت بعدًا جديدًا من بعد ما يُسمّى بـ”الانقسام الفلسطيني”، مستندة إلى محاولة تجديد ما يُسمى “عملية السلام”، والتي كان من محطّاتها مؤتمر “أنابوليس” في نوفمبر 2007، واستعادة السلطة الفلسطينية لدورها في استهداف حركة حماس، هذه المرّة تحت عنوان “الانقسام”، وهو ما أفضى إلى تجريف مجمل الحالة الوطنية بالضفة الغربية، وإحلال سياسات جديدة، تهدف إلى هندسة المجتمع، وإعادة صياغة وعيه، على أسس اقتصادية، بهدف تحييده تمامًا عن القيام بواجبه النضالي في مواجهة الاحتلال.
بدأت هذه الوقائع تتغير منذ العام 2014، بعدما أسرت مجموعة من حركة حماس في مدينة الخليل 3 مستوطنين صهاينة، وهو ما جرّ حربًا ملحمية مع المقاومة في غزّة سنة 2014، وفي الأثناء كانت هبّة مقدسية في القدس، بعد خطف مستوطنين لطفل مقدسي وقتله حرقًا، انعكست هذه الأحداث بهبّة كبيرة عام 2015 اتسمت بالعمليات التي سميت “عمليات فردية”، من عمليات طعن ودعس وإطلاق النار، ثمّ تجدّدت الهبات في القدس في أعوام 2017 و2019 و2021، إلا أنّ هبّة 2021 تحوّلت إلى مشهد نضالي لفّ الفلسطينيين في كل مكان، وانتقل إلى مواجهة مسلحة مع المقاومة في غزّة، ليتلو ذلك تمكن 6 فلسطينيين، كلهم من منطقة جنين، من الهرب من سجن “جلبوع” شديد التحصين. وإذا كان قد أعيد اعتقالهم لاحقًا، فإنّ هذه الحادثة مع مجمل المسار أعلاه، ولاسيما بعد معركة “سيف القدس” 2021، أفضت إلى تشكيل مسلح اعتصم في مخيم جنين، أطلق عليه “كتيبة جنين” يتبع حركة الجهاد الإسلامي، لكن في الطريق إلى ذلك كلّه، كانت العمليات الفردية، والعمليات المدفوعة من تنظيمات مقاومة، كحركة حماس، تلهم الجماهير وتدفع نحو توليد المزيد من العمل الجهادي، ومن ثمّ فما تشكَّل في جنين، هو حصيلة مسار طويل من الفعل الجهادي المتتابع.
مقاومة ملهمة
بدا مخيم جنين وكأنّه متمرّد على مجمل الواقع السياسي والأمني والاجتماعي في الضفة الغربية، وصار أقرب للملاذ الآمن للمقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، حتى إن بعض منفذي العمليات من مناطق أخرى انتقلوا للاختفاء في المخيم، ثم، أخذ العمل في المخيم يتحول من الشكل العلني الاستعراضي، إلى الشكل الأكثر خفاء ونجاعة وتعبيرًا عن إرادة الإثخان في الاحتلال، وأعطى المؤشر الواضح على ذلك تدمير مدرعة عسكرية “إسرائيلية” متطورة أثناء محاولة سابقة للاحتلال لاقتحام المخيم في 19 يونيو، وهو ما سرّع من اتخاذ قرار الاحتلال بالدفع بهذه العملية الواسعة التي نفّذها أخيرًا.
تطور حالة المقاومة أمر باعث على الخشية الشديدة لاحتلال يرى في الضفة الغربية ساحة الصراع الرئيسة
لم تفلح الإجراءات الموضعية في تفكيك حالة المقاومة في مخيم جنين، بالرغم من أن بعض هذه الإجراءات كانت تفضي إلى ارتقاء أكثر من 10 شهداء في اليوم الواحد، كما أن الاحتلال سبق له وعاد إلى تنفيذ سياسات الاغتيال من الجو، وفي حين أن الإرادة الإقليمية والدولية كانت تريد إعطاء فرصة للسلطة الفلسطينية لاحتواء الحالة دون تدخل الاحتلال، فإن ذلك كله فشل، مما رسّخ من قدرة هذه الحالة في مخيم جنين على التعاظم والتطور، وكما كانت من قبل ملهمة، لاستنساخها في مناطق أخرى (نابلس، وطولكرم، ومخيم بلاطة في نابلس، ومخيم عقبة جبر في أريحا)، فإن تطورها الأخير من شأنه أن يمنحها قدرة أكبر على الإلهام، وفي الأحوال كلها، فإن تطور حالة مقاومة خارجة عن قدرة الاحتلال، أمر باعث على الخشية الشديدة لاحتلال يرى في الضفّة الغربية ساحة الصراع الرئيسة، وساحته الحيوية للتمدد والاستيطان والدعاية الصهيونية، وعمقه الاستراتيجي أمنيًّا وعسكريًّا، ومن ثم دفع الاحتلال بهذه العملية الأخيرة.
بلغ عديد جنود الاحتلال في العملية أكثر من 1000 جندي صهيوني، معززين بفرق النخبة والوحدات الخاصّة، بالإضافة إلى وحدات استخباراتية تتبع جهاز “الشاباك”، وفي حين كان يفترض أن يكون هدف هذه القوات كلها اقتحام المخيم لاعتقال المقاومين أو اغتيالهم، فقد بدأت العملية بقصف جوي بالطائرات المسيّرة، مع تحليق للطائرات المقاتلة والمروحية، والاحتماء بسلاح المدرعات.
هذا الحشد الهائل غير المسبوق في عدد الجنود، والاستعانة المركزية بسلاحي الطيران والمدرعات، فشل تمامًا في اقتحام المخيم، أو تنفيذ عمليات أمنية ذات جدوى، فالمقاتلون حافظوا على أنفسهم، وظل الجسم الرئيس لبنية المقاومة في المخيم قائمًا، مع قدرته على تنفيذ عمليات اشتباك مع قوات الاحتلال أثناء الاقتحام.
ينبغي أن يُؤخذ بعين الاعتبار، والحالة هذه، أن عملية الاحتلال هذه تستند أصلاً إلى عملية سابقة للاحتلال شملت الضفة الغربية كلها اسمها “كاسر الأمواج”، وإلى 25 كتيبة من جيش الاحتلال موجودة بالضفة، فضلاً عن كون الضفة الغربية كلها خاضعة للاحتلال الأمني المباشر، فمناطق (أ) التي يفترض أن تكون الإدارة الأمنية فيها للسلطة الفلسطينية أنهاها الاحتلال، كما سبق قوله، منذ 21 عامًا، كما أن السلطة الفلسطينية غير متعاطفة مع حالة المقاومة القائمة، فهذه الظروف كلها، وغيرها، تعمل لصالح الاحتلال في نهاية الأمر، بيد أن ذلك كله لم يفلح في مواجهة بضع عشرات من المقاتلين الفلسطينيين بسلاح خفيف، ليخرج الاحتلال في النهاية بنتيجة صفرية، سوى ما خلفه من دمار في مخيم جنين.
قد تكون هذه العملية، من أفشل العمليات البرية لجيش العدو الصهيوني في تاريخه كله، ودون التقليل من حجم الدمار الذي خلفه في المخيم، وهو دمار قد يعيق بدرجة ما في المدى القريب حركة المقاومة هناك، إلا أن رجوع العدو فاشلاً من حملة ضخمة، أعدّ لها عامًا كاملاً، وصاحبها بدعاية تعبوية كبيرة، من شأنه أن يعزّز أكثر من حضور المقاومة في الضفة الغربية، وأن يتفاعل في تطورات سياسية واجتماعية مهمة على المدى المتوسط.