ما من إنسانٍ إلا وتتحكمُ فطرتُهُ في وجهةِ أمرِهِ، وما من فطرةٍ سويةٍ إلا وتدفع صاحبها إلى الطريق المستقيم، وكان سَعْدُ بن خَيْثَمَةَ بن الحَارِث الأنصاريِّ(1) في صدرِ شبابِهِ لمَّا هَفا(2) مدفوعًا بفطرتِهِ السَّويِّة إلى اعتناقِ الدينِ، وحَفَلَتْ جوانِحُهُ(3) بحبِ الداعي إليه، وصرَّحَ بذاك الحب ظَاهِرُهُ لمَّا خرج للقاءِ النبي صلى الله عليه وسلم مع خيارِ اليثربيين، فلمَّا قَدَمُوا مكةَ قال سعد لبعضِهِم: انْطَلِقْوا بنا حتَّى نأتي رسول اللَّه فَنُسَلِّمَ عليه فإنَّا لم نره قطّ وقد آمنَّا به.
فأتوْهُ في منزل العبَّاس بن عبدالمطَّلب فسلَّموا وسألوهُ: يا رسول الله، متى نلتقى؟ فقال العبَّاسُ: إنَّ معكم من قومِكُم من هو مُخَالِف لكم فَاخْفُوا أمرَكُم حتَّى نلتقي.
ووعدهمْ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم أن يوافِيهُمْ أسفل العقَبَةِ، وفي العقبةِ الثانيةِ بايع سعد مع المبايعين وكان نقيبَ قومِهِ.
وآنَ للإسلامِ أن ينطلق على الطريقِ، وامتلك النبي صلى الله عليه وسلم وسائل المُضي فوقه فطرَقَهُ(4) إلى يثرب، وعندما ورَدَ قُبَاء كان سعد بن خيثمةَ، وكُلْثُومُ بنُ الهِدْمِ في طليعةِ المستقبلين، وكل منهما ممتلئ الخاطر(5) باستضافةِ النبي صلى الله عليه وسلم، وكان صلى اللهُ عليه وسلم ملْهَمًا في توزيع الأدوارِ، فجعل دار كلثوم الشيخ الثري للضيافةِ والمبيتِ (وكانت داره بمكان قبلة مسجد قُبَاء الآن)، وجعل دار سعد الشاب الفتي للقاء الوفودِ (وكانت داره بمكان المأذنة الغربية لمسجد قُبَاء الآن) لتتلاحق دقات قلبيهما بمزيجٍ من الفخرِ والغبطةِ(6).
بيدَّ أنّ سعدًا رضي الله عنه كان معلومًا بالشرفِ والكرمِ، فكان يُسمَّى بـ«سعدِ الخيرِ»، وكانت داره معلومةً بالضيافةِ، فنزل بها الْعُزَّابُ من المهاجرين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسُمِّيتْ بـ«دارِ العُزَّابِ».
إنَّ حال سعد لَتُوحِي إلى المتفكرِ في أمرِهِ أنَّ كلَّ ما في جوفِهِ من أعضاء قد تحوَّلَ إلى قلبٍ، وإنَّ كلَّ ما في قلبِهِ من أوردةٍ وشرايين قد تحوَّلَ إلى مسارِ حبٍّ، فقد بات حالمًا بشيء واحد يتحمل من أجلِهِ كلَّ مشقةٍ، ويصبر للفوز به على كل بلاءٍ، ولا يكفّ حُلْمهُ عن الخفقان في فؤادِهِ، ولا يكفّ هو عن المضي إليه؛ ألا إنَّ حُلْمه الجنَّة، وراح يسأل الله لحُلْمِهِ في مصبحه وممساه.
ومع فكرة الخروجِ لـ«بدرٍ» هَبَّتْ على قلبِه نسماتُ شذاهُ، فامتدَّ بصرُهُ إليه وما عاد يرى سواه، فخرج مع أبيه للحربِ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج أحدُهما، فقال له أبوه: يا بني، لا بدَّ لأحدِنا أن يقيم فآثرْني بالخروجِ وأقم أنت مع نسائنا.
وما كان سعد لِيُرْجِعَ على أبيهِ كلامًا، أو يردّ عليه رأيًا ولكنَّه آل على نفسِه أن يَـفْدِي حلمَهُ بمهجتِهِ(7) وروحِهِ، وفي لهجةٍ شفوقةٍ حانيةٍ قال لأبيه مقولة تُذْهِل المرءَ عن نفسِهِ وتَدَعهُ ناقمًا على ضعفِهِ: يا أبتي، إنَّها الجنَّةُ، ولو كان شيئًا غيرها لآثرتُكَ على نفسي، إنِّي أرجو الشهادةَ في وجهي هذا(8)! ليُعَقِّب كل بما شاء ثم يعيد الإنصات للمشهدِ.
مشهدٌ مثيرٌ وفريدٌ ما تُطَالعهُ عينٌ إلا ويتبعها خاطر يملأ الذهن بمعنى الصدق مع اللهِ تعالى، وأمامَ التصميمِ النادر لسعد وأبيه على الخروج، تقارب اختلافها على إجراءِ القرعةِ بينهما، فاقترعا واختارتْ القرعةُ سعدًا أو لنقلْ: اختار اللهُ سعدًا.
وعلى ساحةِ «بدرٍ» وقف سعدٌ وقد أحدَّ بصرَهُ تجاه صفوف قريش المتراصَّة في تحفزٍ لوأد جنين الإسلامِ في رحمِ الحقِ(9)، وزأرتْ الحربُ واشتدَّ لهيبُها وتدافع تكبيرُها وضجيجُها؛ تكبيرٌ ينشدُ الحقَ والخيرَ، وضجيجٌ يقرع طبول الباطلِ والشرِ، وغاب سعد بين تفاصيلِ المشهدِ يقاتل بضراوةٍ وبراعةٍ حالمًا بنصرٍ أو شهادةٍ.
وتَلَبَّـثتْ الأجسادُ في التدافعِ والاشتباكِ، وتلبَّـث المشهدُ المَرْهوبُ لوقتٍ يعلم الله أمدَهُ حتى أطلَّ النورُ على «بدرٍ» مشعًا من وجوهِ ثلاثة عشر شهيدًا سقطوا في دماءٍ حمراء قانيةٍ، غَطَّى طِيبُها الأفق معانقين المصيرِ بأريحِيَّةٍ(10) تعزّ على النظيرِ، وكان سعد أحدهم، قتله عمرو بن ودٍ، وقيل: بل طُعَيمة بن عَدِي، ورقى سعد الخيّرِ إلى حلمِهِ.
ومرَّ عامٌ حافلٌ بالأحداثِ، وأبوه يرتدي مراحِلَها حدثًا في إثرِ حدثٍ، ويَبْسُط على نفسِهِ رداءَ الصدقِ في اللحاقِ بولدِهِ حتى شقَّ مجراهُ إلى هناك، وصعدَ شهيدًا سعيدًا يوم «أُحدٍ».
وسيبقى نظائرُ سعد وأبيهِ في تاريخ الإسلام مَاثِليْنَ، وسيبقى التاريخ حامدًا صِدْقَهم مع رب العالمين، هذا الصدق الذي لا يحوزه إلا من دأب على غسلِ روحِهِ في روافدِ الدينِ.
___________________________
(1) الطبقات الكبرى (9/79)، البداية والنهاية (3/319)، تجريد أسماء الصحابة (1/213)، الإصابة (3155)، الاستيعاب (934)، أسد الغابة (1986).
(2) اشتاق ومال.
(3) أضلاعه القصيرة مما يلي الصدر.
(4) اتخذه طريقًا.
(5) ممتلئ القلب والنفس.
(6) يشعر بنعمة عظيمة يتمنى عدم زوالها عن نفسه.
(7) الروح.
(8) أتمنى الشهادة في خروجي لهذه الحرب.
(9) التي جاءت لقتل الدين الوليد الذي يدعو إلى الحق.
(10) كلمة تُعني الارتياح للبذل، والعطاء، وعمل المعروف.