إن التساؤل حول الهوية الذي ما يفتأ يفرض نفسه بقوة على العالم الإسلامي يوماً بعد يوم، هو تساؤل فرضته طبيعة العصر الذي نعيشه والتحديات التي يفرضها، فما زال العالم الإسلامي منذ انتباهته الأولى على وقع مدافع الاحتلال خلال الحقبة العثمانية في حيرة من أمره، فالاحتلال قد جاء بالقوة الغاشمة وبالتنوير في الوقت عينه، ليفرض على المسلمين سؤالاً مُعضلاً عن هويتهم وما يجدر بهم فعله للتعاطي مع ذلك العالم الغربي الحديث المتحضر، وفيما بين السؤالين لا تزال دوائر الفكر والتنظير تدور دورات مغلقة دون حسم.
والهوية في أبسط معانيها هي «نحن» أو «أنا» في مواجهة «الآخر»، ما الذي يجعلنا نحن ويميزنا ويطبعنا بطوابعه الخاصة بالمقارنة والمقابلة مع آخرين لهم ما يميزهم عنا، فإذا ما غاب ذلك التميز الخاص أصبح البشر كأدوات متطابقة وأنماط متماثلة لا اختلافات تميزهم ولا فوارق تدفعهم نحو التعارف والتآلف إلى بعضهم بعضاً.
إن أهمية الهوية لكل أمة توازي أهمية الفوارق الفردانية بين الناس، فكل إنسان له طابعه المميز ومهاراته التي تعطيه أفضليه دون غيره في مجال من المجالات، وكذلك الأمم والحضارات، كل حضارة لها طابعها الخاص وثقافتها المتفردة، وتمسُّك كل أمة بهويتها وخصوصياتها هو ما يعطيها القوة على صعيد علاقاتها بالأمم الأخرى، بينما تماهيها المُطلق مع الآخرين وتخليها التام عن خصوصيتها لمصلحة اعتناق وتبعية الآخرين يلغي كل إمكانية لتحقيق أي نجاحات ممكنة، إذ هي بتلك التبعية تتخلى عما يميزها حقاً ويُعطيها الأفضلية في مقابل تبني ثقافات وأفكار لا تستطيع في الواقع أن تتساوى فيها مع أهلها الأصليين لأنها لا تلائم تلك الأمة التابعة التي لم تتعود على تلك القيم الغريبة عنها كلياً.
وبذلك المعنى فإن الهوية لا تعني «الصدام» بالشكل الذي قصد إليه صمويل هنتنجتون في كتابه «صدام الحضارات»، بل إن الهوية ترمي إلى التكامل بين الأمم عن طريق تبني كل أمة لهويتها الخاصة وتعظيم خصوصياتها بما يثري الحضارة العالمية بقدر كبير من التنوع الثقافي والحضاري بديلاً عن التنميط الذي يرمي إليه الغرب بجعل الشعوب كلها شعباً «غربياً» واحداً، فقد بدأت موجات العولمة مُعلنة «نهاية التاريخ»، كما أشار فرانسيس فوكوياما، إذ بنهاية الصراع الأمريكي السوفييتي وهزيمة الاشتراكية يُصبح النموذج الغربي الأمريكي هو النموذج العالمي الأوحد المُسيطر والأجدر بالاتباع من سائر الثقافات، طالما تمكن من الصمود والنجاح في معركة الأيديولوجيات التي سادت طوال نصف قرن.
العولمة والإمبريالية
والعولمة هي تلك الظاهرة التي تُشير إلى إزالة الحواجز فيما بين الدول وتحرير حركة التجارة والبضائع ورؤوس الأموال لتحقيق فرص اقتصادية وتجارية متساوية للجميع على صعيد السوق العالمية، وقد توسعت تلك الظاهرة لتشمل، بالإضافة إلى معانيها التجارية والاقتصادية، معاني ثقافية وحضارية ترمي إلى تحرير الأفكار والقيم وانتقالها فيما بين الدول.
تتلاقى العولمة مع الإمبريالية الغربية التي سادت عبر عصور ممتدة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إذ فرض الاحتلال الأجنبي في العالم الإسلامي ثقافته فرضاً بالقوة الجبرية، ونهب ثروات البلاد اقتصادياً وجعلها مرتعاً لتحقيق مصالحه الخاصة ومآربه في استنزاف الموارد الطبيعية والاقتصادية والبشرية لتلك الدول، لكن الجديد لدى العولمة هو هيمنة ثقافية ناعمة لا تستخدم القوة الغاشمة بشكل مباشر وصارخ على غرار الاحتلال العسكري، وإنما تفتح الطرق التجارية والاقتصادية لتغزو الأسواق تجارياً وثقافياً في الوقت عينه، وتنشر نموذجها الثقافي وأسلوب عيشها كنموذج ثقافي جذاب يجدر اتباعه طوعاً لأنه الأفضل.
ومثلما روج الرجل الأبيض المستنير لثقافته باعتبارها الأفضل من ثقافة الشعوب المحتلة المتخلفة، تُقدم العولمة للشعوب الأخرى الثقافة الأمريكية باعتبارها نموذجاً ثقافياً متحرراً وديمقراطياً ومليئاً بالفرص والعدالة والمساواة وسيادة القانون، ويُعلي من قيمة الفرد وحريته وكرامته –وشهواته– بإزاء المجتمعات الرجعية المنغلقة والجامدة.
اندثار الثقافات
ويمكن تلمُّس الأثر الحقيقي للعولمة ومدى تدميرها للثقافات من خلال تقارير منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) التي ما تفتأ تُصدر التقارير السنوية للتراث العالمي الثقافي غير المادي وما يتهدده من تآكل واندثار، فحياكة «السدو» في الكويت، أو «رقصة التحطيب» في مصر، أو التقاليد البدوية والقبلية في الغناء والشعر والرقص وغيرها كلها أشياء في طريقها للاندثار، والممارسات الاجتماعية المحلية التي يجتمع إليها الناس من مآدب وعادات في المأكل والملبس تبدلت لمصلحة الموضة والانعزالية، وهو ما يُظهر كيف عملت العولمة ببطء وثبات على تحطيم كل ما هو محلي وتقليدي وموروث لمصلحة تنميط البشر بعادات ونمط حياة موحد.
العولمة والإسلام
بينما تنطلق العولة من عقلية صدامية غربية تبحث عن الغزو والعنف وفرض الثقافة بالقوة الغاشمة، فإن الرؤية الإسلامية كدعوة عالمية قد آمنت بفكرة الدولة الكونية التي تشمل الأمم جميعاً تستوعبها في إطار قيم العدالة والمساواة، إذ لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، لكنها لا تعادي الخصوصيات والهويات المنضوية تحت لوائها، بل يسودها المبدأ القرآني (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13)، أما العولمة فإنها ترى في التمايزات والخصوصيات والثقافات المحلية تهديداً مباشراً، ونداً يجدر التخلص منه واجتثاثه من الجذور.
الفرص المأمولة
لكن ذلك الموقف المعادي كلياً للعولمة لا يجدر به أن يصرف نظرنا إزاء الفرص المأمولة التي قد تُتيحها تلك الظاهرة لثقافتنا الإسلامية، فكأي ظاهرة من الظواهر الفكرية لا يمكن أن تكون شراً مطلقاً أو خيراً محضاً، بل يتحتم علينا أن نجد في كل هجوم أو كل تحدٍّ فرصة سانحة لحسن الاستغلال وفطنة التعاطي.
كذلك العولمة، فإنها تحدٍّ يمنح عبر مواجهته فرصاً لا محدودة للعالم الإسلامي في إبداع طرائقه الخاصة لحماية هويته والذب عن خصوصيته، واستخدام ذلك التهديد الثقافي بمزيد من التمسك بالتراث وإحيائه بشتى الطرق غير التقليدية، وإبداع مناهج جديدة في نقل القيم والأخلاقيات للأجيال الجديدة التي يضعف ارتباطها بهويتها يوماً بعد يوم، وتجد في الثقافة الغربية بديلاً ناجعاً أكثر إغراءً وإغواءً من القيم التقليدية الموروثة عن الآباء والأجداد.
إن العولمة تُقدم لنا فرصة جديدة قديمة عن الهوية الإسلامية، لا من حيث طرح مزيد من التساؤلات حول «من نحن؟»، و«العلاقة مع الآخر»، ولكن لتقديم مزيد من الرؤى والمناهج غير التقليدية في الإجابة عن تلك التساؤلات وفهم مُتعمق لما وراء تلك التساؤلات، فالأهم في عالم معولم كلياً اليوم ليس طرح سؤال من نحن، ولكن المُضي قُدماً حول «لماذا نحن؟»، لماذا يجب أن نتمسك بهويتنا في مواجهة الآخرين، فقد أدى طول مدة التساؤل عن هويتنا إلى نسيان السبب الحقيقي لسؤال الهوية.
ومن ثم يجدر بنا البدء من جديد إلى فهم أهمية هويتنا والبحث عن أساليب مبتكرة لحماية ما تبقى منها والتمسك بما هو في طريقه للاندثار وإعادة إحيائه بنظرة عصرية نقدية لا تتخلى عن ذلك التراث كلياً ولا تأخذ به على تاريخيته التي تجعله غير ملائم للعصر، وبتلك المنهجية فقط يمكننا مجابهة العولمة وخلق نموذج إسلامي ثقافي يتحدى القولبة وينبض بالحياة والتجدد.