لعل القارئ الكريم قد يعجب من عنوان تلك المقالة، فماذا قد يربط بين اللمبي (وهو شخصية تمثيلية قام بها ممثل مصري معروف)، وأمر عظيم في عقيدة كل مسلم وهو إعجاز القرآن؟!
استُضيف أستاذ جامعي متخصص في اللغة العربية بإحدى القنوات التلفزيونية، وكان لقاء راقياً لم يخلُ من الإفادة والمتعة، وقد حكى فيه الدكتور قصصاً من مفاكهات الأدباء حصلت معه، وقال فيها شعرًا لطيفًا مضحكًا، فسأله مقدم البرنامج أن يسمح له حسه الساخر برؤية شيء على الشاشة فأجاب، فعُرض مقطع من أحد المسلسلات يظهر فيه اللمبي وقد رجع إلى زمن الجاهلية فرأى في السوق شاعرًا يقول:
تدفقت البطحاء بعض تبحطل وقعقعت البيداء غير مزركل
إلى آخر هذا الكلام الذي لا معنى له، وظن مقدم البرنامج أن ذلك أمر مضحك، فاستقبل الدكتور بالتبسم وطلب تعليقه، فقال الدكتور: «أنا في غاية الحزن لما شاهدت، اللغة العربية هي جزء من الهوية ومن الذات، ولا يجوز أن تكون محلًا للسخرية بهذا الشكل تحت أي ظرف»، ثم طفق يبين معاني جليلة في فضل العربية وتعظيمها وما كان عليه الناس بشأنها، ثم تفكرتُ فيما حمل الدكتور على رد الفعل ذلك بخلاف مقدم البرنامج، ولم أجد إلا أن هناك معنى قام في نفسه من معرفة هذه اللغة العظيمة ودراستها منعته أن يجعلها محلًا للتندر والاستخفاف.
إن هذا المعنى الذي قام في صدر الوليد بن المغيرة -وهو الجاهلي عدو الإسلام- الذي تذوق اللغة العربية وعرف جمالها كما قال عن نفسه: «فوالله، ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن مني»، لم يستطع بعدها إلا أن يعترف أن القرآن أسمى وأجلّ من كل ما عاين فلا يساوى به شيء، فقال عنه عندما سمعه من النبي صلوات الله وسلامه عليه: «إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته».
وإن كثيرًا من المسلمين الآن لم يعرفوا حقيقة إعجاز القرآن لأنهم لا يعرفون اللغة العربية، وبالتالي لم يقم في قلوبهم ذلك الإجلال الذي قام في نفوس الجاهليين لها، الذين عرفوا أن القرآن ليس بكلام بشر؛ فآمن بعضهم استسلامًا وخضوعًا، وكفر بعضهم عنادًا واستكبارًا بعد معرفة الحق.
ورغم هذا الجهل الواسع باللغة والمنتشر حتى في الدول العربية التي تمثل 20% فقط من المسلمين، فإن اللغة لا تسلم من الاستهزاء بها وبأهلها، فإن كثيرًا من الشخصيات التي تكون محلًا للتندر في الأفلام والمسلسلات هي شخصية شيخ الجامع أو المأذون أو المعلم الذي يتكلم بلغة عربية فصيحة تثير الضحك في بقية شخصيات العمل الدرامي، وكأنه يتكلم بلغة أجنبية -كالسنسكريتية مثلًا- لا يعلمها سائر الناس فتقوقع عليها وأصبح مصابًا في عقله لا يصل فكره إلى أفراد المجتمع ولا يصلون إليه!
إن معرفة اللغة العربية وتعلمها فرض واجب، وفي ذلك قال ابن تيميّة رحمه الله: «اعلم أنّ اعتياد اللغة يؤثّر في العقلِ والخلقِ والدينِ تأثيراً قويّاً بيّناً، ويؤثر أيضاً في مشابهةِ صدرِ هذه الأمّةِ من الصحابةِ والّتابعين، ومشابهتهم تزيد العقلَ والدينَ والخلقَ، وأيضاً فإنّ نفس الّلغة العربّية من الدين، ومعرفتها فرضٌ واجبٌ، فإنّ فهم الكتاب والسنّة فرضٌ، ولا يُفهم إلاّ بفهم الّلغة العربّية، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب»(1)، ومن أخص أوجه تلك الفرضية معرفة إعجاز القرآن، ومن ذلك قال ابن قيّم الجوزيّة رحمه الله: «وإنّما يعرف فضل القرآن مَنْ عرف كلام العرب، فعرف علم الّلغة وعلم العربّية وعلم البيان ونظر في أشعار العرب وخطبها ومقاولاتها في مواطن افتخارها ورسائلها..»(2)، وكما يُعلمنا الوقوف على ذلك مدى تقصيرنا في حق تلك اللغة العظيمة فإنه أيضًا يدفعنا إلى مزيد من الجهد المنظم وتوفير الإمكانات للقيام بهذا الحق لا سيما عند تربية الناشئة، فنسأل الله أن يلتفت إلى ذلك عامة المسلمين.
وأختم بكلام جليل لأبي هلال العسكري عن إعجاز القارآن، قال: «وقبيحٌ لعمري بالفقيه المؤتم به؛ والقارئ المهتدى بهديه، والمتكلم المشار إليه في حسن مناظرته، وتمام آلته في مجادلته، وشدة شكيمته في حجاجه، وبالعربي الصليب والقرشي الصريح ألّا يعرف إعجاز كتاب الله تعالى إلا من الجهة التي يعرفه منها الزنجي والنبطي، أو أن يستدل عليه بما استدل به الجاهل الغبي»(3).
_________________________
(1) انتهى من اقتضاء الصراط المستقيم، ص 207.
(2) انتهى من الفوائد المشوق إلى علوم القرآن، ص 7.
(3) الصناعتين، ص 1.