عبدالعزيز البدري
قد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى العالم المجاهد الذي جمع بين السيف والقلم، ومن حوادث جهاده أن التتار حين جاؤوا بجموعهم إلى الشام عام 702هـ أرجف المرجفون، وخرجت القلوب من جنوبها، حيث استعدت الجيوش من مصر والشام لملاقاة تلك الجموع، وقد أخذ دعاة الهزيمة والتردد ينشرون الفزع في القلوب، أما ابن تيمية فكان يثبت القلوب ويعدهم بالنصر والغلبة، تاليـًا عليهم قول الله تعالى: (وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُور) (الحج: 60).
حتى إنه كان يحلف بالله: إنكم لمنصورون، فيقول بعض الأمراء له: قل إن شاء الله، فيقول: أقولها تحقيقاً لا تعليقاً، فاطمأنت القلوب وسكنت النفوس، ولكن دعاة الهزيمة أتوا الناس من ناحية أخرى متذرعين بقولهم: كيف نقاتل المسلمين؟ إن ذلك ليس بجائز شرعـاً.
يقولون هذا الزعم وكأنهم مهاجمون وليسوا مدافعين، عندئذ تقدم ابن تيمية مبيناً بجرأة الحقيقة الشرعية في هذا القتال والمقاتلين، فيقول: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليّ، ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما.
وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والمظالم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة.
ثم قال مصرحاً: «إذا رأيتموني في ذلك الجانب -أي مع التتار- وعلى رأسي مصحف فاقتلوني»، فتحركت القلوب وثارت نخوتها الإسلامية، ثم امتطى رحمه الله تعالى صهوة جواده وخرج إلى ميدان القتال محارباً ومحرضاً، فما كان لمثله أن يدعو إلى الثبات في الجهاد، وهو ينكص على عقبيه، بل يتقدم الجموع لينال الشهادة في سبيل إعزاز كلمة الدين وراية الإسلام.
وذهب إلى «مرج الصفر»، وهو مكان قريب من دمشق، وابتدأت الموقعة الحربية التي تسمت في التاريخ بموقعة «شقجب»، وذلك في رمضان 702هـ، وتلاقى الجمعان، ووقف العالِم المجاهد مقاتلاً، يثبت القلوب من حوله بقتاله وفعاله، وقد اجتمع بالسلطان قبل الموقعة، يحثه على الجهاد والقتال، ورد المعتدين الآثمين، حيث بلغه أن السلطان متردد في القتال، فما كان من السلطان إلا أن تحمس وطلب منه أن يقف بجانبه في المعركة.
فقال شيخ الإسلام: «السُّنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معه».
وقد حث الجند وأمراءهم على الإفطار ليتقووا على القتال، وكان يروي لهم قول النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة الكرام في غزوة «الفتح»: «إنكم ملاقو العدو والفطر أقوى لكم».
وكان يدور على الأجناد يأكل معهم من شيء معه، ليبين أن إفطارهم أفضل ليقووا به على القتال.
ووقعت الواقعة واشتد القتال، واشترك فيه ابن تيمية، ووقف هو وأخوه موقف الموت، وأبلوا بلاءً حسنـًا، وصدق أهل الشام وجند مصر ما عاهدوا الله تعالى عليه، فاستمر القتال طوال اليوم الرابع من رمضان، حتى إذا جاء العصر أذن الله تعالى بالنصر، فظهر جند مصر والشام، وانحسر جند التتار، فلجؤوا إلى اقتحام الجبال والتلال، وجند السلطان الناصر، أو بالأحرى جند ابن تيمية، وراءهم يضربون أقفيتهم، ويرمونهم عن قوس واحدة، حتى انبلج الفجر، ونادى المنادي: الله أكبر، حي على الصلاة.
وبذلك الإعلان انكشفت الغمة، وزال خطر التتار، فكانت هزيمة منكرة، منوا فيها بالخسران المبين، ولم تقم لهم بعدها قائمة، فأمِن الشرق والغرب عاديتهم.
_____________________
من كتاب «الإسلام بين العلماء والحكام» للشيخ عبدالعزيز البدري.